أذن وعين
في تذكّر الجميلات الجزائريات الثلاث
عبد اللطيف السعدون
أمر مثير حقا أن تصلك صورة جميلة بوحيرد (90 عاما) وهي راقدة على فراش المرض، وعلى شفتيها ابتسامة عريضة توحي بالأمل والطمأنينة، وكأن المرض لم يثقل عليها لا قليلا ولا كثيرا، وكانت أتقنت الصمود وتعلمت المواجهة من الأحداث الكبيرة التي عاشتها فهي واحدة من جميلات جزائريات ثلاث تركن أحلام المراهقة وراءهن، ونذرن أنفسهن للثورة، وعشن سنوات طوالا في بوتقة نضال يومي لم يعرفن خلاله كللا ولا وهنا، وحين انتصرت الثورة فضلن الانزواء بعيدا وعدم الانخراط بشكل مباشر في عمل السلطة الجديدة، واكتفين بممارسة أدوار في الظل بعدما دبت الخلافات بين رفاق الامس، وقد أسكرتهم نشوة النصر الذي جاوزت كلفته مليونا من الشهداء، ومليونا آخر من الجرحى وذوي الاعاقات، وكما ثقيلا من الأعباء والمسؤوليات، والمخاطر أيضا.
تعيدك الصورة الى الوراء لتستعيد في ذاكرتك المتعبة جميلة بوحيرد الاصل، وهي تتحدث اليك لتوحي لك بالأمل والطمأنينة، وكأن الأعوام التي مرت لم تنل لا منها ولا منك، وكأن العالم المحيط لم يغير ولم يتغير، وما تزال كلماتها ترن في الأذن، وكأنك تسمعها لأول مرة: «أشعر وأنا في العراق أنني في بيتي وبين أهلي»، كان ذلك في زيارتها لبغداد قبل ستين عاما التي اكتسبت معنى تاريخيا يصعب نسيانه، وكنت أدير حوارا معها لحساب راديو بغداد، وقد أقامت بالفعل أياما بين أهلها العراقيين الذين احتفوا بها «أيقونة» ثورة، ورمز تحرر، وأشاد بها زعيم البلاد آنذاك عبد الكريم قاسم، وأكبر فيها شجاعتها في مواجهة محتلي بلدها.
من حكاياتها، وهي بعد صغيرة تتلقى الدرس في صفوف مدرسة حي القصبة، وقفتها الجريئة وسط طابور الصباح حين كان رفاقها يهتفون، كما أمرتهم سلطة المستعمر، أن «أمنا فرنسا»، شقت جميلة بوحيرد الطابور لتصرخ: «لا.. لا.. أمنا الجزائر وليست فرنسا»، وكان جزاؤها الطرد من المدرسة.
اعتقال وتعذيب
ومن حكاياتها انها انضمت الى صفوف الثوار، وهي لم تبلغ العشرين، وكلفت بنقل الرسائل بين قيادة الثورة في الجبل وبين ممثل الثورة في المدينة ياسيف السعدي الذي وضعت السلطة مئة ألف فرنك فرنسي لمن يأتي برأسه، وعندما شعر رجال الأمن بتحركاتها طاردوها، وفي آخر مرة أطلقوا عليها النار فأصابوها، وألقوا القبض عليها، وتعرضت للاعتقال والتعذيب، وحكم عليها بعقوبة الإعدام، وأطلق سراحها فيما بعد بموجب اتفاقيات ايفيان التي مهدت لحصول الجزائر على استقلالها.
وفي تذكر جميلة بوحيرد نتذكر معها جميلتين أخريين، جميلة بوباشا التي وهبت نفسها للثورة، حملت القنابل بين حي وحي، ونجحت في تفجير مركز لجند الاحتلال، ومقهى اعتادوا ارتياده، حتى ضبطت وهي متلبسة بحمل قنبلة بنية وضعها في موقع آخر، وأقرت أنها فعلت ما فعلته لأنها تريد الحرية لبلادها، لكنها لم تفصح عن أسماء رفاقها الناشطين معها، وعذبت تعذيبا وحشيا، وتعرضت للاغتصاب، ثم حكم عليها بالإعدام، ونالت حريتها بعد أن اقرت فرنسا بحق الشعب الجزائري بالحصول على استقلاله، وجاء اعتراف الرئيس ايمانويل ماكرون بما فعله العسكر الفرنسيون معها كنوع من الاعتذار للجزائريين لكنه لم يكن كافيا للصفح والنسيان، والتاريخ لا يطوي صفحاته على مغفرة.
جميلة بوعزة كانت الثالثة، نفذت عمليات فدائية عديدة، تعرضت بعدها للاعتقال والتعذيب، وسجلت مرة معاناتها: «أصبحت عاجزة عن المشي لكثرة ما تحملته من عذاب، كانوا يلصقون الاسلاك الكهربائية على مناطق مختلفة في جسدي وأنا عارية، ومعلقة من يدي، وكنت أرتعش وأهتز جراء التعذيب الوحشي الذي عانيته»، وألقي القبض عليها، وحكمت، هي الأخرى، بالإعدام ثم أفرج عنها.
في تذكر الجميلات الجزائريات الثلاث نذكر بالخير كيف وقف العالم معهن بمثقفيه وأدباءه وقنانيه الذين نظموا حملات احتجاج من أجل فك أسرهن، قال المفكر الفرنسي جان بول سارتر «ان التعذيب الوحشي الذي مارسه جنود فرنسا يكتسح العصر كله... علينا أن نؤازر الجزائريين في جهادهم من أجل تحرير بلادهم، وكي نرفع وصمة العار عن فرنسا»، وكتبت رفيقة عمره سيمون دي بوفوار منددة، وكذلك فعلت الكاتبة والمحامية جيزيل حليمي والروائية فرانسواز ساغان وغيرهما، كما جسد بابلو بيكاسو ما تعرضت له الجميلات الثلاث من تعذيب وحشي في لوحة له اشتهرت فيما بعد، وعبرت قيادات عالمية مثل الرئيس الأميركي جون كنيدي والزعيم الصيني ماوتسي تونغ عن مشاعر مساندة وتعاطف.
في النهاية انتصرت الجميلات الجزائريات الثلاث، وتحررت الجزائر، لكن العار ظل يلاحق فرنسا حتى اليوم.