الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السينما العراقية تنبض بين الذاكرة والجراح

بواسطة azzaman

السينما العراقية تنبض بين الذاكرة والجراح

كرار الحلي

 

تعيش السينما العراقية حالة من البحث المتواصل عن هوية ضائعة وسط تراكب الأزمنة السياسية والاضطرابات الاجتماعية. فكل مرحلة من تاريخ العراق تركت بصمتها على الشاشة، حتى باتت السينما مرآة لمجتمعٍ يتغيّر بسرعة، ويحاول الفن أن يلتقط ملامحه قبل أن تتلاشى. في البدايات، كانت السينما العراقية تعاني من ضعف البنية التحتية، لكنها وجدت في التعاون مع مصر نافذة أولى للحضور. إنتاجات مثل «عليا وعصام» و»القاهرة بغداد» شكلت لحظة حماس جماعي، وإن كان الارتباط بالمصريين آنذاك يشير إلى افتقار الصناعة إلى عماد فني محلي متكامل. في العقود التالية، بدأ جيل من المخرجين يكوّن ملامح سينما أكثر ارتباطًا بالمجتمع العراقي. أفلام الخمسينيات والستينيات كشفت عن توجه نحو الواقعية، في محاولات متكررة لتسجيل هموم المواطن العادي. ومع دخول السبعينيات، برز التوتر بين الإبداع والتوجيه السياسي، حيث حوصرت السينما في أطر دعائية لمشاريع الدولة، وابتعدت عن القضايا الحقيقية للناس. لكن بعض الأصوات خرجت عن هذا النمط. قاسم حول، فيصل الياسري، وآخرون سعوا لتقديم سينما مختلفة، تميل إلى الإنسان أكثر من الأيديولوجيا. ورغم صعوبة التمويل، وبعض أشكال الرقابة، حافظ هؤلاء على شعلة الفن مشتعلة في زمن الظلال. التحوّل الحقيقي جاء بعد 2003، حيث انفتح المجال أمام التجريب والتعبير، لكن في مقابل ذلك، تراجعت مؤسسات الدولة، وتقلّص الدعم. السينما المستقلة بدأت تظهر، لكنها اصطدمت بواقع صعب: بنية إنتاجية ضعيفة، قاعات عرض غائبة، وتمويل شحيح. أفلام مثل «تحت رمال بابل» و»الرحلة» قدّمت وجوهًا جديدة ورؤى جريئة، لكنها بقيت تجارب فردية في محيط يفتقر إلى منظومة إنتاجية متكاملة. السينمائي العراقي بات اليوم مضطرًا أن يكون مخرجًا، وكاتبًا، ومنتجًا، ومسوّقًا لفيلمه، وكل ذلك في بيئة تفتقر إلى الاستقرار. ومع كل ذلك، يبقى الأمل معقودًا على الجيل الجديد، الذي يستخدم الكاميرا كأداة للمقاومة الفنية، والتوثيق، والتأمل في هوية مشروخة. التكنولوجيا اليوم تخفف الكلفة، لكن لا تغني عن الحاجة إلى منصات عرض، ودور إنتاج، ومؤسسات تؤمن أن السينما ليست ترفًا، بل وسيلة لفهم الذات والآخر.

السينما العراقية اليوم ليست مجرد فن موازٍ للواقع، بل محاولة لإعادة سرد حكاية وطن تحاول أن تُكتب من جديد. ولكي تنجح في ذلك، عليها أن تتكئ على تاريخها دون أن تُقيّد به، وتفتح نوافذها للعالم دون أن تفقد صوتها الخاص. ومع تزايد مشاركة الأفلام العراقية في المهرجانات الدولية، بدأت تتشكل لغة سينمائية جديدة، لغة لا تقتصر على تصوير الألم، بل تحاول فهمه وتحليله، وربما تجاوزه. كثير من المخرجين الشباب باتوا يروون قصصًا صغيرة بحجمها، لكنها كبيرة بأثرها، قصصًا لا تحمل شعارات، بل تنبض بصدق التجربة، وتُظهر تعقيدات الهوية العراقية دون تبسيط. غير أن هذا التحول لا يخلو من التحديات. فبين طموح الفنان ورغبات السوق، يضيع أحيانًا صوت العمل الأصيل. وفي ظل غياب قوانين تحمي الملكية الفكرية وتدعم الإنتاج المستقل، تبقى الأعمال الجادة في خطر التهميش، ما لم تحظَ برعاية واعية من مؤسسات تؤمن بقيمة السينما كثقافة، لا مجرد ترفيه. كما أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة بناء البنية التحتية للعرض السينمائي داخل العراق. فغياب صالات السينما في معظم المحافظات لا يُقصي فقط الجمهور عن مشاهدة الإنتاج المحلي، بل يضعف حلقة التواصل الحيوية بين الفنان ومجتمعه. فالفيلم الذي لا يُشاهد، كالنص الذي لا يُقرأ، يبقى ناقصًا مهما كانت جودته. وفي مقابل هذه الصعوبات، تبرز مبادرات فردية وجماعية تستحق التقدير. مهرجانات محلية، عروض متنقلة، ورش عمل تدريبية، كلها محاولات لرأب الصدع بين الفن والجمهور. وهذه الخطوات، وإن كانت محدودة، تعكس إصرارًا على خلق بيئة فنية حقيقية وسط الركام، وتؤكد أن السينما العراقية ما زالت تنبض، ولو ببطء. يبقى السؤال: إلى أين تمضي هذه السينما؟ الجواب ليس بسيطًا، لكنه يرتبط بقدرتها على الصمود، وعلى إيجاد توازن بين التعبير عن الذات والتفاعل مع العالم. وبين توثيق الماضي واستشراف المستقبل. السينما العراقية اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة، لا تُقاس فقط بعدد الأفلام المنتَجة، بل بعمقها، وصدقها، وتأثيرها.

 

 

 


مشاهدات 82
الكاتب كرار الحلي
أضيف 2025/07/05 - 12:42 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 11:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 279 الشهر 2542 الكلي 11156154
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير