الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
على أنقاض غزة… لقاءٌ لا يُرى بالعين

بواسطة azzaman

على أنقاض غزة… لقاءٌ لا يُرى بالعين

إحسان الزيدي

 

المكان: مدينةٌ نُسفَت… ولكنها لم تُمحَ.

الزمان: لا زمن… فالزمن مات تحت الركام.

الحضور: إبراهيم طوقان، محمود درويش، سميح القاسم، عبد الله عزام، غسان كنفاني، رجال القسام، وناجي العلي في الزاوية يرسم.

الصمت: أحمد مطر، يخطّ في الظل.

 

طوقان؛؛

 

كنتُ أظن أن “موطني” أغنية تُحفظ في المدارس،

لم أعلم أن حفيد الشهيد سيحفظها على وقع القصف،

ودمُ أبيه على قميصه.

 

درويش؛؛

 

“في القدس”، قلتُها ذات حلم،

واليوم… لا قُدس، ولا حُلْم.

رأيت أطفالًا حفاة يحملون العالم على أكتافهم،

ونسوةً يغسلن جراح الأرض بماء الغيم،

ثم سمعت من يقول:

“هل يستحق؟”

 

سميح القاسم؛؛

 

يا من تسألون: هل يستحق؟

دعوني أروي لكم ما لا يُروى:

الجثةُ المحروقة في بيت حانون

لا تسأل عن جدوى الموت…

هي تعرف أن موتها أغلى من حياة العبيد.

 

عبد الله عزام؛؛

 

قالوا: المقاومة ورّطت الناس!

وأنا أقول:

الاحتلال ما دخل أرضًا برضا أهلها…

بل برضا عبيدها.

ومن أراد الكرامة، عليه أن يدفع ثمنها… دمًا، أو عزّة، أو كلتيهما معًا.

 

غسان كنفاني؛؛

 

اسألوا أنفسكم:

هل كان بإمكان غزة أن تعيش بلا مقاومة؟

نعم، كَجثّة تمشي.

وكم من عواصم عربية تعيش الآن كهياكل بلا عظم… بلا كرامة؟

المقاومة لم تختر الحرب… الحرب هي التي اختارتنا.

 

مقاتل من المقاومة (وجهه مغبر، لكن نظرته تشقّ السماء)

 

لسنا من بدأ القتال،

لكننا من اختار أن لا يُذبح صامتًا.

ما نفع الحياة إذا كان سقف بيتك رأسك؟

وما نفع السلام إذا كان بمداد دمك؟

 

ناجي العلي (يرسم وجه حنظلة فوق غبار غزة)

 

حنظلة اليوم لا يُدير ظهره…

بل يتقدّم الصفوف.

لم يعد يكتفي بالمشاهدة

يرفع قلمه كمن يُطلق رصاصة):

 

صار حنظلة شهيدًا طفلًا،

ومقاتلًا يُصلي برصاصةٍ في بندقيته.

لم يعد طفلًا يراقب… بل صار رمزًا يُرعبهم.

أرادوه شاهدًا على الهزيمة،

فإذا به شاهد حقٍّ على فشل العالم.

 

أحمد مطر (من الظل، يُمسك الورقة كمن يقرأ على منبر الدم):

 

قالوا: لماذا تُفرحكم دمعة جنديٍّ صهيوني؟

فقلت: لأن الدموع لا تخرج من عيون الظلم… إلّا حين يذوق طعم الخوف.

وقالوا: هل كل هذا الدم يستحق؟

فقلت:

ومتى في التاريخ تحرّر وطنٌ بلا دم؟

هل خرج الإنجليز من الهند بشِعر رومانسي؟

هل سقطت باريس من النازي بمؤتمر؟

هل قامت الجزائر على مفاوضاتٍ أنيقة؟

أنتم لا تكرهون العنف… أنتم تكرهون أن يصرخ المظلوم في وجه القاتل.

 

ثم صوتٌ غامضٌ من تحت الركام… صوت غزة نفسها:

 

يا من تخافون على كرامتنا أكثر من أرواحنا،

نحن لا نُحب الموت،

لكننا عرفنا أن الحياة بلا حرية ليست حياة.

وقد اخترنا أن نُدفن أحياءً…

على أن نعيش عبيدًا تحت أقدام القتلة.

 

في نهاية المشهد

يقف كلٌّ من درويش، وطوقان، وسميح، وكنفاني، وعبد الله عزام…

ينظرون نحو الغيم المتصاعد من غزة،

ثم يقول أحدهم – دون اسم – وكأنه صوت الحقيقة:

من يسأل إن كان كل هذا يستحق…

لم يعرف بعدُ من هو العدو،

ولم يجرّب طعم الشرف،

ولم يسكنه وطنٌ يُولد في كل شهيد.

 

وفي زاوية الصورة

حنظلة يبتسم للمرة الأولى،

لكن وجهه يبقى للعدو…

وظهره لنا.

 

المشهد الختامي: مناجاة على أنقاض الأمة

 

المكان: بقعة خربة من غزة… القمر مكسور الضوء،

الزمان: آخر الليل… قبل أن ينفجر الفجر أو يستسلم.

 

الشيخ أحمد ياسين،

مُسندٌ إلى كرسيّه،

نصف وجهه في الضوء، ونصفه في الظل،

صوته يخرج كأنّه من قاع القلب:

 

يا صلاح الدين…

يا من دخلت القدس لا فاتحًا فقط، بل مطهِّرًا…

هل تسمعني؟

جئنا بعدك نرابط، لا نملك سيفك…

لكنّا نملك وعدًا:

“لا تزال طائفة من أمتي…”

وكنّا نؤمن أن الرصاص، حين يخرج من صدرٍ يعرف الله…

يصيب أكثر من دبابة.

ويا عمر…

يا من مشيت على تراب القدس حافيًا…

أرأيت كيف مشينا حفاةً على الزناد؟

أطفالي… يُولدون والرصاصة في مهودهم،

ونسائي… يحملن العار عن كل خائنٍ لم يخجل.

لا تسألني: أين إخوانكم؟

قد بعنا عتابنا في سوق غياب القُربى.

خذلنا أهل الدم الواحد،

اضطررنا…

نعم، اضطررنا أن نُقبل بيد العدوّ القريب،

لا حبًّا، ولكن كارهين،

لأن بوابات أهلنا أوصدت،

ولأن حديث العزّة صار يُتلى في قصور الخوف.

العثماني الأخير؟

جاء متأخّرًا…

مثل الذي يطرق بابًا بعد أن احترق من فيه.

حدّث كثيرًا…

لكن لم نسمع صوت الطائرات.

 

وابناء الرهبر و الظلام؟

ما دخلوا بيتنا إلا حين خذلنا أهل البيت.

فاستظلّينا بظلٍّ مسموم…

بدلًا من أن نموت تحت شمس نقية.

يا قدس…

يا قبلة الصاعدين،

لا تلومي مَن رماكِ من العدو،

ولكن ابكي مَن هجرك من القريب.

نحن هنا…

لا نملك الكثير،

لكننا نملك الجذور.

نملك طفلاً يُولد باسمه: “شهيد”.

وفتاةً تحفظ الدعاء قبل أن تحفظ الأغاني.

وكرسيًّا مثل هذا…

لا يُقعد إلا الجسد، أما القلب،

ففي كلّ جدار من حاراتك… يقف.

ثم يسكت…

وينظر إلى السماء،

ويهمس:

 

“أدّينا ما قدرنا عليه،

وسنُسأل…

والله يعلم من رابط، ومن راوغ، ومن تواطأ.”

 

تنتهي الصورة…

على ظلال الكرسي،

وظلّ القُبّة،

وظلال رجالٍ لم يخذلوا حين خُذلوا.

 

فوق الركام… نُصلّي لا لننجو، بل لنشهد الوعد.

فإنّا على يقينٍ لا يصدأ: إن نصر الله آتٍ… ولو بعد حين.

 

 


مشاهدات 89
الكاتب إحسان الزيدي
أضيف 2025/07/05 - 2:13 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 7:20 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 178 الشهر 2441 الكلي 11156053
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير