الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هل يتعلّم طلابنا كما يتعلّم الدماغ؟ مناهج العراق وأسئلة المستقبل

بواسطة azzaman

هل يتعلّم طلابنا كما يتعلّم الدماغ؟ مناهج العراق وأسئلة المستقبل

بين ما يحدث في العالم، وما يجب أن يحدث في العراق

أسامة أبو شعير

 

في كل عام، يتكرر المشهد ذاته في العراق: آلاف الطلبة يتقدمون لاختبار “السادس الإعدادي” الحاسم، محمّلين بقلق يكاد يختزل أعوامًا من التعلّم في بضع ساعات. مستقبل الطالب يُقرّر غالبًا بدرجة نهائية، وليس بمشروع قدّمه، أو مهارة طوّرها، أو فكرة ابتكرها.

لكن بينما نُراكم الضغوط على الطلبة والمعلمين، هناك دول بدأت فعليًا بإعادة تعريف التعليم، ليس كوسيلة لنقل المعلومات، بل كمنظومة لبناء قدرات العقل.

السؤال الذي ينبغي طرحه اليوم: هل يتعلّم طلابنا كما يتعلّم الدماغ؟ أم أننا نُدرّسهم بطريقة لا تُشبههم، ونقيّمهم بأسلوب لا يُنصفهم؟

من الحفظ إلى الفهم… ومن الامتحان إلى المشروع

في بريطانيا، ظهرت مبادرة رائدة تُعرف بـ “اتحاد الدورات الموجهة من المدارس” (SDCC)، تقودها مدارس أعادت النظر في مناهج المرحلة الثانوية العليا.

بدلًا من الاعتماد الكامل على الامتحانات، بدأت بتصميم دورات تعليمية تركّز على قضايا معاصرة مثل المناخ، الهجرة، وحقوق الإنسان، وتُقيّم الطلبة من خلال مشروعات، عروض تقديمية، وملفات تفاعلية.

وقد اعتمدت هذه المدارس إطارًا يُعرف بـ Higher Project Qualification (HPQ) يمنح الطلبة مؤهلًا رسميًا معترفًا به في القبول الجامعي، بناءً على نتاجاتهم لا على قدرتهم على تذكّر الإجابات.

ما يلفت النظر أن هذا النوع من التقييم لا يلغي المعرفة، بل يعيد توظيفها ضمن سياقات واقعية، ويُشجع المتعلم على التفكير النقدي والتفاعل مع محيطه. إنه نموذج لا يُقصي الامتحان، بل يُعيده إلى حجمه الطبيعي ضمن منظومة تقييم متعددة الأبعاد.

ماذا عن العراق؟

لا تزال المناهج في العراق تقليدية، تضع الامتحان النهائي في موقع السيادة، وتهمّش التعلّم التطبيقي، والتفكير النقدي، والعمل الجماعي.

رغم بعض المبادرات المحدودة، إلا أن النظام العام لا يزال يُقيّم الطلبة وفق نموذج أحادي لا يواكب طبيعة التعلّم أو متطلبات الاقتصاد الجديد.

وفي ظل الأزمات المتراكمة، من النزوح إلى البطالة، تصبح المدرسة فرصة وحيدة لإعادة بناء الثقة لدى الجيل الجديد. لكن كيف يمكن أن نربط الطالب بالعالم إذا ظل المحتوى منفصلًا عن الواقع؟ وكيف نُنمّي المهارات إذا ظلت أدوات التقييم تدور حول الحفظ والاسترجاع؟

من أين نبدأ؟ خارطة طريق ذكية للتغيير

بدلًا من طرح حلول نظرية أو نماذج منسوخة، يمكن تبنّي خارطة طريق عملية، تأخذ السياق العراقي والعربي في الاعتبار، وتُنفذ على ثلاث مراحل مترابطة:

● قصيرة المدى (1–2 سنة):

            •           مراجعة محددة للمناهج لإدماج وحدات مشروعات بسيطة قابلة للتقييم.

            •           تدريب فرق من المعلمين على التقييم القائم على الأدلة والملفات التراكمية.

            •           إطلاق تجارب محدودة في مدارس مختارة، تحت إشراف وطني علمي.

            •           شراكة مع جامعات عراقية لقبول مشروع واحد ضمن معايير القبول لبعض التخصصات.

● متوسطة المدى (3–5 سنوات):

            •           تعميم وحدات المشروع في بعض المواد (الأحياء، الاجتماعيات، المهارات الحياتية).

            •           اعتماد مسار “شهادة المشروع العراقي” كمكمل اختياري لشهادة الإعدادية.

            •           تطوير منصة رقمية لرصد وتوثيق أعمال الطلبة ومهاراتهم غير المعرفية.

            •           تحفيز المدارس على تقديم نماذج محلية مرنة للتعلّم المرتبط بالسياق المجتمعي.

● طويلة المدى (5–10 سنوات):

            •           إصلاح شامل لنظام التقييم يعيد التوازن بين المعرفة، المهارة، والقيمة.

            •           إعادة تعريف النجاح التربوي كمسار تطوّر متكامل لا كعتبة امتحان.

            •           توسيع صلاحيات المدارس في اختيار أدوات التقييم وتخصيص محتوى جزئي.

            •           ترسيخ ثقافة تعليمية جديدة في ذهن الطالب والمعلّم وصانع القرار.

دعوة مفتوحة للقيادات التعليمية في العراق والعالم العربي

ما نحتاجه ليس استنساخ التجارب الغربية، بل استلهام جوهرها: أن نعيد بناء التعلّم بما يشبه الإنسان، لا بما يقيّده الامتحان.

الإصلاح لا يبدأ من مراكز السياسات فحسب، بل من الصف، من المعلم، من تصميم الدرس، ومن طريقة طرح السؤال.

وفي العالم العربي، حيث تتراكم التحديات السياسية والاقتصادية، يصبح إصلاح التعليم مشروعًا وطنيًا لا تربويًا فقط. هو أداة للخروج من التهميش، لبناء مجتمع منتج، ولإعادة ثقة الأجيال بمستقبلهم.

لكن هذا التحول يتطلب قرارًا شجاعًا، يتجاوز البيروقراطية، ويستثمر في المعلم لا في مراقبته، ويمنح المدارس مساحة للتجريب، دون الخوف من المساءلة العمياء. إذا كنا نريد أن نربّي جيلاً قادرًا على الحل والابتكار، فعلينا أن نحرّره من منطق الامتحان، وننقله إلى منطق الإنجاز، وإلى مناهج تُفكّر كما يُفكّر الدماغ.

لقد آن الأوان لنسأل بجرأة:

هل نُدرّب أبناءنا على مواجهة العالم كما هو… أم على اجتياز اختبار صُمّم لعالم لم يعد موجودًا؟


مشاهدات 96
الكاتب أسامة أبو شعير
أضيف 2025/07/05 - 2:12 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 6:25 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 154 الشهر 2417 الكلي 11156029
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير