الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين يتحوّل الدم إلى مادة إعلامية

بواسطة azzaman

حين يتحوّل الدم إلى مادة إعلامية

الجزيرة ستُعيد تدوير الموت حتى آخر فلسطيني

رائد فؤاد العبودي.

raadbagdady@hotmail.com

في الأزمنة التي تختلط فيها الحقيقة بالضجيج، يغدو الإعلام سلاحًا أمضى من الرصاصة. ويكفي أن تُكرَّر الصورة بما يكفي من الحزن، وأن يُصاغ الخبر بما يكفي من الإثارة، حتى تنقلب المأساة إلى ما يشبه العرض، وينقلب الدم إلى سلعة تخضع لقانون الطلب، ويغدو الشهيد جزءًا من برمجة ليلية لا تكتمل بدون عناوين دامعة، وتعليقات تنضح بالغضب، لكن لا تغيّر شيئًا في ميزان الموت والحياة

في هذا المشهد المحتدم، تقف “قناة الجزيرة” كواحدة من

 أكثر المؤسسات الإعلامية تأثيرًا وإثارة للجدل، لا لأنها تمارس الصحافة بمهنية رفيعة، ولا لأنها تفوّقت على خصومها بلغة البيان وسرعة الخبر، بل لأنها نجحت، في السنوات الأخيرة، في تحويل القضية الفلسطينية — وتحديدًا غزّة — إلى أيقونة إعلامية مغلقة على ذاتها، تُستنزف بلا نهاية، وتُستهلك في دائرة من الحزن المتجدّد لا يُفضي إلى خلاص، بل يُراكم المأساة

غير أن “الجزيرة” ليست كيانًا معلقًا في الفراغ، بل هي لسان حال مشروع سياسي واقتصادي معقّد اسمه “دولة قطر”. ولفهم طبيعة الدور الذي تلعبه هذه القناة في سياق الصراع الفلسطيني، لا بد أن نعيد البوصلة إلى الدوحة نفسها، تلك الإمارة الصغيرة التي صنعت لنفسها حضورًا يتجاوز مساحتها وعدد سكّانها، لا بقوة الجيش، ولا بحكمة السياسة، بل بلعبة التناقضات الكبرى التي لا يتقنها إلا من تعلّم السباحة في المياه المزدوجة.

قطر، التي تزعم دعمها للقضية الفلسطينية، تحتضن على أرضها — وبإخلاص شديد — أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، “العديد”، والتي لا تضم مجرد طائرات وعتاد، بل مركز القيادة المركزية للعمليات الأميركية التي قصفت العراق وحرضت عسرات ألالاف من الارهابيين على القدوم للعراق وتحويله لساحة حرب سالت فيها انهار من الدماء العراقية الطاهرة ، واجتثّت أفغانستان، ودمّرت بنى سوريا، وساهمت في تفكيك ليبيا. إنها القاعدة التي تنطلق منها الحروب، وترسم منها الخرائط الجديدة للمنطقة، ومع ذلك لا تتعرّض الدولة التي تستضيفها لأي لوم أخلاقي أو ضغط سياسي. بل تواصل تقديم نفسها للعالم بوصفها “الراعية للسلام”، و”الداعمة للمصالحة”، و”الوسيط النزيه”، وهو ما يُثير الدهشة، لا من قدرة قطر على أداء هذا الدور، بل من قابلية العالم لتصديقه دون تردّد.

وقد لا يكون هذا الازدواج القطري مجرّد تكتيك سياسي عابر، بل استراتيجية وجودية لدولة صغيرة تعرف تمامًا أنها لا تستطيع أن تكون لاعبًا إقليميًا إلا إذا امتلكت أوراقًا حارقة في أيديها. ومن بين أكثر هذه الأوراق حساسية واشتعالًا: غزّة.

لكن قطر، التي اختارت غزة ساحةً استثمارية لحضورها السياسي، لم تكتفِ بتوظيف دماء الفلسطينيين في حرب المواقع والصور، بل انخرطت في سلسلة من المؤامرات الإقليمية كانت تهدف من ورائها إلى إعادة رسم النفوذ العربي لصالحها. تآمرت على السعودية في عزّ اشتعال الملفات، وتحالفت مع تركيا وإيران، ليس لأجل فلسطين، بل للعب أدوار موازية في المنطقة على حساب مركزية القرار العربي.

لم تنسَ مصر أيضًا حصّتها من الاستهداف القطري. ففي الوقت الذي كانت فيه القاهرة تُدير مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة بشقّ الأنفس، كانت الدوحة تُراكم المال والنفوذ، وتُحاول — من تحت الطاولة — إقصاء الدور المصري، بل وبلغ بها الطموح أن دفعت رشاوى لمسؤولين كبار في حكومة نتنياهو لتعطيل المبادرات المصرية، في فضيحة دوّت كالرعد في الصحافة الإسرائيلية نفسها. كل ذلك كي تبقى “قطر” هي اللاعب الوحيد القادر على الظهور كصاحبة مفاتيح غزة، لا لوقف الحرب، بل لإدامة حالة اللاسلم، حيث تبقى الدوحة قادرة على القول: “أنا هنا”، كلما سال دمٌ أو فُتحت كاميرا.

فغزّة لم تكن في لحظة ما مجرد أرض محاصرة أو ساحة مقاومة، بل تحوّلت، بفضل الجزيرة والسياسات القطرية، إلى مختبر دائم للغضب العربي، تُضبط فيه أعصاب الشعوب، وتُفرَّغ فيه طاقاتها، وتُشحن فيه الجماهير، من أجل معركة لا يُراد لها أن تُحسم، ولا أن تنتهي. وفي قلب هذا المختبر، تبرز “حماس”، بوصفها الفاعل الميداني الذي يقاتل، ويُستهدف، ويُقتل، ويُموَّل في الآن ذاته، من قبل دولة عربية، عبر قناة إسرائيلية، في مفارقة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا.

نعم، لقد وصلت المأساة حدًّا سرياليًّا: دولة قطر ترسل أموالًا إلى إسرائيل، كي تقوم الأخيرة بتحويلها إلى حماس! ولا تُخفى هذه الصفقة، بل تُقدَّم على أنها عمل خيري وإنساني، في حين أنها، في جوهرها، تكرّس فصلًا من فصول العبث: تمويل المقاومة من بوابة الاحتلال، ودعم الفلسطينيين على طاولة التنسيق الأمني، وإنقاذ القطاع كي لا يموت، لا حبًّا بالحياة، بل كي يبقى حيًّا ليموت من جديد على شاشات الفضائيات.

إن ما يُثير الاستفهام الأعمق ليس التمويل فقط، بل الإصرار المحموم على أن تبقى غزّة في واجهة الحدث، حتى حين تهدأ البنادق، وتغفو المدن على ركامها. الجزيرة، بقوتها التأثيرية ونفوذها النفسي، لا تسمح للسكون بأن يستقر، ولا تترك للحياة أن تستعيد نبضها. بل تواظب على بث النيران بغير هوادة، حتى يُعاد تدوير الحزن من جديد، وتُستولد الكارثة في حلقة لا تنتهي.

وفيما أهل غزّة يتنقلون بين الفقد والجوع، والقلق والسأم، وبين انتظار الحرب القادمة، أو هدنة لا تطول، فإن أهل الجزيرة يتنقلون بين الاستوديوهات المكيّفة، والندوات المترفة، والرحلات الفاخرة إلى العواصم التي تُقيم مؤتمرات “الضمير العالمي”.

لا أحد من هؤلاء فقد منزله. لا أحد خسر طفله. لا أحد يعرف معنى أن تُدفن أمك تحت الأنقاض، وأن تُكمل حياتك بذاكرة مبتورة.

وهكذا تصبح غزة جزءًا من وظيفة إعلامية، لا قضية مأساة انسانية . وتتحول الدماء إلى عنصر ضروري في دورة البث، كما يتحول المراسل إلى شاهد دائم على الألم، لا لينقله، بل ليضمن استمراره. الجزيرة لا تقاتل نيابة عن أحد، لكنها تُديم القتال بآليتها الخاصة، وبطريقتها التي تُبقي الجرح مفتوحًا باسم الصحافة، في حين أن ما يجري هو نوع آخر من الاستنزاف الرمزي، الذي يجعل من كل فلسطيني قابلاً للموت من أجل “قضية” يُعاد إنتاجها يوميًا، لكن لا تُحلّ أبدًا.

وفيما تستعد غزة لمزيد من التدمير القادم ، لا تفعل قطر شيئًا سوى ترتيب طاولات المفاوضات، وضبط إيقاع البث، وتمديد المشهد المأساوي، وكأن الغاية لم تعد النصر، بل استمرار القصة.

إن الجزيرة لا تنقل المجازر فقط ، لكنها تحوّلها إلى نمط حياة.

ولا تنحاز إلى غزة وحسب ، لكنها تُخدر العقل العربي بأن لا شيء يمكن تغييره سوى التعبير عن الغضب، ثم الانصراف إلى النوم، بينما أهل القطاع يُكملون موتهم، نيابة عن أجندة حماس الممتدة من طهران الى الدوحة .

الجزيرة لن تقاتل بقطرة دم، ولن تخسر شيئًا. لكنها ،، ما دامت القصة قائمة ،، ستظل تبث، حتى آخر فلسطيني في غزة.


مشاهدات 135
الكاتب رائد فؤاد العبودي.
أضيف 2025/06/25 - 3:57 PM
آخر تحديث 2025/06/26 - 2:25 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 326 الشهر 16300 الكلي 11150954
الوقت الآن
الخميس 2025/6/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير