نافذة واسعة لرؤية الحياة في زمن السينما
قوّة تغيير هائلة قادرة على كسب القلوب والعقول
عبد الحسين شعبان
توفّر السينما نافذة واسعة لرؤية الحياة بكلّ تفاصيلها وتعقيداتها وجمالياتها، وهي تحرّك العواطف البشرية وتتغلغل في النفس الإنسانية وتُسهم في إعادة تشكيل الهويّة أو التأثير فيها، حيث يكتشف الإنسان نفسه والعالم من خلالها. ووظيفة الفن ليس إعادة صياغة الواقع، بل إعادة رسمه جماليًا، فهل كنّا نستطيع تقدير قيمة لوحة الموناليزا لولا ما كتبه ليوناردو دافينشي عنها بقوله «سيّدة تبتسم لأنها تُخفي سرًا عن حبيبها».
والسينما في جوهرها رواية لقصص وحكايات تتفاعل فيها الصور والأصوات والسرديات عبر الزمان والمكان. وإذا كان محي الدين بن عربي هو القائل «الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمّد»، وذلك لأن الزمان هو لبّ الوجود أي حقيقته وجوهره، فالسينما تثري هذا الفهم الفلسفي - الصوفي التاريخي لعلاقة البشر مع بعضهم البعض في بلدانهم وفي العالم، في إطار عوالم متداخلة ومتّصلة، بل مشتبكة بقدر ما فيها من خصوصيات، ففيها مشتركات كثيرة، مختلفة ومؤتلفة، إنها تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم إجابات.
يستطيع صانعوا الأفلام إثارة العواطف الإنسانية الأشد استجابةً للحواس، الأمر الذي يخلق علاقة قويّة أحيانًا بين المشاهد والرواية التي يتم سردها، وإن كانت من مجتمعات بعيدة ولغات مختلفة وألوان وأجناس متباينة وعادات وتقاليد وأمم وشعوب أخرى. والفيلم الجيّد لا يجعلك متفاعلًا معه فحسب، بل ينسيك أنك في دار السينما، حسب رومان بولانسكي.
وتتمتّع السينما بقدرة عجيبة على تضخيم الأصوات، حتى لو كانت مهمّشة أو صامته ضمن ما هو سائد من اصطفافات اجتما - سياسية، بحيث تمثّل أدوات قويّة لتسليط الضوء على حكايات غير مروية وشخصيات تكاد تكون مجهولة، وهكذا يمكن أن تكون منصّةً لمن ليس له تمثيلًا وسفيرًا لمن لا سفارة له، خصوصًا في عرض ثقافات وتجارب لأمم وشعوب وجماعات ومجموعات ثقافية، وبهذا المعنى فهي عامل مهم للحوار بتقديم رؤية حول تفسير العالم والعمل على تغييره.
والسينما ليست وسيلة للتسلية أو أداة للترفيه وقضاء الوقت للاستمتاع فقط، وإنما هي قوّة تغيرية هائلة لديها القدرة على كسب القلوب والعقول، والتأثير على جماعات وشعوب، ناهيك عن كونها تحمل سحر الصور التي تعرضها والتي تبقى مقيمة في الذاكرة والوجدان، ولولا السينما لبقي عالمنا ضعيف البصر والبصيرة، فالثورة التي أحدثتها السينما، ولاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، ساهمت في تنمية الوعي باستخدام العقل بحدّه الأقصى، ولاسيّما بتحرير الفن من الدوغمائية والنمطية والرتابة.
صورة شاعرية
والفن حسب هايدغر، هو المدخل إلى المطلق، وهذا الأخير ليس سوى الروح عندما تنمو في الحقيقة. وفي السينما تتطابق الصورة مع الواقع لأجل الوجود والمعنى. والإنسان لا يتعرّف على نفسه إلّا من خلال الصورة الشاعرية، التي هي جزء لا يتجزأ من الثقافة بمفهومها الخاص والعام، وهذه لا تكتمل دائرتها إلّا بالخيال. والإنسان بفطرته متخيّل، فهو يتخيّل ويحلم ومن ثمّ يعمل على تحقيق أحلامه بما يجمعها بالعلم أيضًا، وحسب أينشتاين «التخيّل أهم من المعرفة»، فهو لم يصل إلى النظرية النسبية، إلّا عبر خياله الجامح، والفروق بين البشر عميقة أيضًا بسبب الخيال، وقد عادت الصورة لتهيمن على الكتابة باختراع الكاميرا، التي أخذت تحدّد تدرجات الألوان وآلة التصوير والشريط السينمائي وصولًا إلى التلفزيون والكومبيوتر والفيديو واليوتيوب، وصار الجميع مسمرين أمام الشاشة.
هكذا أصبحت السينما شاشة معلومات أيضًا، ومحرّك أساسي للوعي، ولم تُهمل أجهزة المخابرات الدولية الكبرى من استخدامها لأغراضها الخاصة في الحرب الناعمة والحروب النفسية في الصراع الأيديولوجي الدولي، مثلما استخدمتها الشركات الكبرى والمؤسسات الاقتصادية والمالية.
يحتاج البشر إلى الفن لإعادة رسم حياتهم، وبدونه يتعرضون للصدأ واليباس والخواء، لأن الفن هو روح، ومثلما كان يردّد أحد ثوريّي عصره، قبل ما يزيد قرن من الزمن: «أعطني خبزًا ومسرحًا أعطيك شعبًا مثقفًا»، فيمكننا اليوم أن نقول «أعطني حياة حرّة كريمة وسينما، أعطيك شعبًا مثقفًا وراقيًا».
وعن دور الصورة، نقول في العمل الأكاديمي «الوثيقة خبر»، وفي الإعلام والفن نقول «الصورة خبر»، فهي تُغني عن مئات المقالات وعشرات الدراسات، لأنها تقدّم الحقيقة حيّة وطازجة، وصورة واحدة لمحمد الدرة لعبت دورًا تأثيريًا كبيرًا على الصعيد الرأي العالمي. كما لعبت الصورة دورًا كبيرًا في حركة الاحتجاج العالمي والانعطاف الكوني نحو القضية الفلسطينية في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، بما فيه في الغرب وفي الولايات المتحدة تحديدًا، لاسيّما بين الشباب والطلاب، بمن فيهم الشباب اليهود، الذين أبدى الكثير منه تعاطفه مع أهل غزّة ومعارضته لسياسات إسرائيل وحربها المستمرة.
أقول السينما هي أداة تنوير مثل ما هي أداة تغيير، وهي أداة جمالية وقوة ناعمة للتغلغل وجسر لنقل الأفكار والعادات والتقاليد ونمط الحياة، ويعتمد على من يملكها ويوجهها، فإن كان بالاتجاه السلبي فستكون أداة حرب ونزاع وتبرير للعنف والجريمة والوحشية، والعكس صحيح أيضًا.
هامش :
الأصل في هذه المادة كلمة ألقاها شعبان في حفل افتتاح مهرجان سوسة السينمائي الدولي بدورته الرابعة عشر (تونس)، في 8 نيسان الماضي بصفته رئيسًا للجنة التحكيم.
□ أكاديمي ومفكر