عراقيات حكايات مكتومة منذ 1948.. تجربة العلي في إستنطاق التاريخ الشفاهي
لقاء موسى الساعدي
قد تنال اعمال لاقيمة لها شهرة كبيرة وتركيزا اعلاميا يدفعنا للوقوف عندها بينما تطمر نتاجات جادة دون الاشادة باهميتها العلمية والمعرفية الكبيرة، هذا ماحدث وانا احاول البحث عن مقالات بخصوص كتاب الدكتورة نادية العلي الرائد في مجال البحث التاريخي الشفاهي. فاكتشفت ان الشبكة العنكبوتية تخلو من اي مقال عن الكتاب رغم صدوره منذ عام 2015 . لذا احاول في هذا المقال ان اقدم اضاءة بسيطة عن هذا الكتاب الضخم وكاتبته الجادة الدكتورة نادية صادق العلي وهي استاذ محاضر في الانثروبولوجيا الاجتماعية في معهد الدراسات العربية والاسلامية بجامعة اكستر، برطانيا. وعضو مؤسس في منظمة نعمل معا: نساء للعمل من اجل العراق وعضو منظمة نساء متشحات بالسواد المناهضة للحروب، ولدت لاب عراقي وام المانية. التقيت الدكتورة نادية في عدد من ورش العمل وتدريبات الجندر التي اشرفت هي عليها مباشرة وسعت بجهد الباحث الدؤوب والعراقي الحريص على دعم تدريب اساتذة من جامعة بغداد تدريبا منهجيا واكاديميا في مجال الدراسات النسوية والبحوث الجندرية،وقد لمست فيها جدية العالم وايمانه بقضية الانسان ودور العراقي والاكاديمي المغترب في عرض قضية بلده بعلمية ورصانة معرفية منزهة من المادية والارتزاق الذي شاع الان مع باحثين مغتربين ارتبطت اسماؤهم بمراكز بحثية خدمت اجندة الاحتلال الامريكي وروجت لمشاريعه.
دراسات تاريخية
اعتمدت الدكتورة العلي في كتابها الرائد ( عراقيات حكايات مكتومة منذ 1948 ) التي اعده وترجمه للعربية السيد فالح حسن فزع عن دار نون سنة 2015 ، منهجا اكاديميا يمكن ان نقول انه جديد في الدراسات التاريخية ، منهج البحث التاريخي الشفاهي الذي دخل الى حيز الجدل الاكاديمي منذ خمسينيات القرن المنصرم حين اعتمده باحثون في تدوين اهوال الحرب العالمية الاولى والثانية، يتناول هذا المنهج جدلية العلاقة بين الذاكرة والتأريخ فيعتمد خبرات فردية وجماعية لصياغة الهوية الفردية والوطنية اي انه يعمل في ميدان دراسة نماذج من شهادات شفوية لاعادة بناء تاريخ اجتماعي لم يكتب عنه، ويستنطق فئات مهمشة لم يصغ احد اليها من قبل. عربيا لازال هذا المنهج محدودا في الاوساط الاكاديمية ويمكن ان يكون التاريخ الشفوي الفلسطيني هو الابرز اعتمده باحثون لمواجهة مشروع تهويد فلسطين وصناعة هوية ممانعة.
تقول الكاتبة: (نقطة انطلاقي التجارب الشخصية، وقصص الحياة والتواريخ الشفاهية الخاصة بنساء عراقيات، متشابكة مع اكثر التواريخ المعروفة والمنشورة، فضلا عن حكاياتي وتجاربي وملاحظاتي الخاصة بي. ولانها محاولة لوضع تجارب شخصية وحكايات رسمية، مختلفة ومكتظة ومعقدة في اطار واحد، فهي ليست تقنية في الروي. فعملية بنائها واختيارها خاضع اصلا لطبيعة النساء اللواتي روينها. فالذكريات سواء كانت فردية ام جمعية ليست ثابتة وجامدة في اطار زمانها، بل هي تنبض بالحياة، منغرسة في الحاضر بقدر تجذرها في الماضي) .1
اما العينة التي اعتمدتها الدكتورة العلي في دراستها هي نساء من الطبقة الوسطى العراقية من خلفيات حضرية يمثلن مدن عراقية مختلفة ومحافظات مثل البصرة وبغداد والنجف وكربلاء والموصل وكركوك ودهوك واربيل. وهن من اجيال مختلفة وخلفيات اثنية ودينية متنوعة وبينهن ربات بيوت وناشطات ساسيا ومشارب حزبية مختلفة.موزعات في دول الشتات العراقي في المنافي منذ اربعينيات القرن الماضي.واعتمدت اسلوب المقابلات 80 امرأة، مع مايربو على 100 امرأة يسكن اماكن مختلفة بين عمان ولندن وديترويت وسان ديغو ومن لازلن يعشن داخل العراق في مدة امتدت عامين تقريبا.
يركز هذا الكتاب على انجازات كبيرة تحققت بيد النساء، وتطورات ايجابية في حقوقهن السياسية والقانونية والاجتماعية ويضيء من جانب اخر ما شهدته حياتهن من عقبات مستمرة ومعاناة انسانية لاتوصف خلال حقبة الدكتاتورية وما اعقبها من تدهور كبير بعد الاحتلال الامريكي للعراق. لذلك تضمن الفصل الثاني من الكتاب روايات النسوة الحقبة اللاحقة لثورة 1958 وماتلاها من انقلاب البعثيين القوميين سنة 1963. اما الفصل الثالث فقد تناول العقد الاول من نظام البعث 1968-1979 قبل رئاسة صدام حسين، وما بعدها حتى 2003 . اما الفصلين 3-4 فقد ركزت على تغير سياسات الدولة بما اضر بمكتسبات النساء وعاد بالضرر على المجتمع ككل، مع تاثير الحرب العراقية الايرانية في بنية المجتمع وخاصة النساء. بينما خصصت الفصل الخامس لتجارب مختلفة عن ثلاث عشرة سنة شهدت اكثر انظمة العقوبات شمولا ولم يسبق ان فرضت على بلد من قبل. بينما تناول الفصل الاخير حكايات الاحداث منذ الغزو في عام 2003، وما ترتب عليه من تصاعد العنف والطائفية والتحجيم الممنهج لحرية النساء وحقوقهن. (2)
جمعت الدكتورة العلي في هذا الكتاب بين اهتمامها بدراسة علاقات الجنوسة واثرها الاجتماعي واهتمامها كأنثربولجية اجتماعية تستكشف العلاقات بين حياة الافراد والمسارات التاريخية الاوسع نطاقا.واحسب ان هذه دراسة لم تسبق بمثيل لها من ناحية منهج البحث التاريخي الشفاهي مع التركيز على الجانب الجنوسي في بحوثنا الاكاديمية داخل العراق على الاقل.
انجز هذا البحث بدعم اكاديمي من الاكاديمية البرطانية التي وفرت منحة لانجاز هذا العمل كما تبنته دار zed books للنشر وترجم الى اللغة التركية والاسبانية والكردية واخيرا باللغة العربية.
كتاب مهم
وارجو ان يفتح هذا الكتاب الملهم الباب امام دراسات جديدة ترسم معالم هوية وطنية عراقية لاتغفل الفئات الاجتماعية التي طالما همشت في الروايات الرسمية والتاريخ الرسمي المكتوب والمدون.
ينظر عراقيات حكايات مكتومة: ص 24
م.ن: ص33