لعلي لا أجانب الصواب كثيراً حينما أقول أننا نتعاطف جميعاً مع الفقراء، ونكن لهم محبة خاصة، ونتوق إلى ذلك اليوم الذي نجدهم فيه بأحسن حال، يغادرون خانة الفقر ويلجون إلى عالم الرفاهية، ويتزودون من هذه الدنيا بكل ما يحلمون به من مغانم.
وقد لا أبتعد عن الحقيقة كثيراً حينما أزعم أن هناك عقائد سياسية تقوم ليس على حب الفقراء فحسب، بل على ازدراء الأغنياء أيضاً، فهي تدعو إما إلى إبادة الأغنياء، أو وضعهم في السجون، أو الاستيلاء على ثرواتهم، فالمال الذي جمعوه لم يأتهم إلا من جهد وعرق المعدمين، ولا بد من مساواتهم بالفقراء الذين يشكلون الفئة الأكبر في المجتمع، وهكذا.
وكان العالم الفقير حتى وقت قريب مبرءاً من كل ذنب، منزهاً عن أيما عيب، بما فيه التلوث البيئي، أما العالم الصناعي المترف، فهو مدان من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، لأنه يستهلك معدلات عالية من الطاقة، ويحرق كميات كبيرة من الوقود، ويتسبب بتحرير غاز ثاني أوكسيد الكربون، أو ما يعرف بغاز الدفيئة، الذي لا يسهم في اختناق الكوكب فحسب، بل في الاحترار الكوني أيضاً، أي أن ما يشهده الكوكب الأرضي من عبث ودمار إنما سببه المجتمعات الصناعية الغنية، التي تسرف في الإنتاج الصناعي وتجارة الأسلحة.
غير أنه تبين في ما بعد أن الدول الفقيرة التي يقل فيها دخل الفرد السنوي عن (2000) دولار سنوياً، تشترك هي الأخرى في جريرة التلوث، وتقوم بتدمير الكوكب بطريقتها الخاصة، وهي ليست بمعزل عن ما يصيب الكوكب من أذى.
الزيادة السكانية تحدث فيها بوتائر أعلى بكثير من الدول الغنية، تتجاوز في معظم الأحيان الضعفين، والاكتظاظ السكاني يحدث أضراراً بالغة بالبيئة بسبب الحاجة الفائقة للغذاء، الأمر الذي يعني إجهاد التربة، واستهلاك ما فيها من مخصبات.
كما تؤدي الكثافة العالية للاستيطان على حساب الأراضي الزراعية إلى الزحام، وقسوة المناخ، عدا عن أن الفقر ينعكس كثيراً على الخدمات الأساسية، مثل انعدام السكن الصحي، وسوء تصريف المياه، وتكدس النفايات، وخراب المدن.
والمعلوم أن استهلاك المياه في الدول الغنية هو أعلى بكثير من مثيله في الدول الفقيرة.
وقدرت بعض المنظمات المتخصصة بحقوق الإنسان الكمية الأدنى التي يحتاجها الفرد بحدود 50 لتراً يومياً، وهو ما لا يتوفر للقسم الأكبر من الشعوب الفقيرة، ومعنى ذلك أن التجمعات السكانية المتخلفة تعاني من تردي الظروف الصحية الأساسية، وتسهم في انتشار الأوبئة.
وبالطبع فإن معالجة الأضرار البيئية لا تتم بمحاربة الأغنياء، أو إطلاق أسوأ النعوت عليهم، أو إثارة الكراهية ضدهم. ولا تتحقق بالانحياز للفقراء، والتقرب إلى المعدمين، بل بإيجاد وسائل تنقذهم مما هم فيه من حاجة.
إن التخلص من الفقر مهمة وطنية وإنسانية، ومن غير المنطقي التذرع بأوهام رومانسية لتزيين صورته، أو التغني بطيبة وعفة أصحابه، فتكريس مثل هذه الحال لا تنفعهم في شيء، بل إنها تضاعف من مأساتهم الإنسانية، ولا يتحقق ذلك إلا بتنشيط التنمية، ودعم الاستثمار في كافة المجالات.
وهذا الأمر لا يعود على الدولة بالأمن والاستقرار فحسب، بل يؤدي إلى التخلص من الأضرار الجانبية، وينتج بيئة صالحة للعيش، ويقلل من الهجرة للخارج، ويطور عملية الإبداع في المجالات العلمية والثقافية كافة، وإذا ازداد دخل الطبقات المهمشة من المجتمع، فإن البشرية ستكسب الكثير من الطاقات المعطلة، وستحظى بما تحتاجه من التطوير والخلق والإبداع، ويقل إلى حد كبير التفاوت في الدخل والفرص والتعليم والمستوى الاجتماعي بين العالمين الغني والفقير.