العلاقات الأمريكية – السورية في الميزان
سيف الحمداني
في مشهد رمزي ثقيل بالرسائل السياسية، ارتفع العلم الأمريكي مجددًا فوق مقر إقامة السفير في العاصمة السورية دمشق، بعد أكثر من عقد من القطيعة والجمود السياسي. هذا الحدث، وإن بدا بروتوكوليًا في ظاهره، إلا أنه يحمل دلالات استراتيجية عميقة، ويكشف عن لحظة تحول في مقاربة واشنطن للملف السوري، ما يستدعي قراءة تحليلية متأنية لا تستعجل التفاؤل ولا تغفل الحذر.
فمنذ عام 2011، حين اندلعت الأزمة السورية، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا حادًا من النظام السابق، وشاركت بفعالية في عزله إقليميًا ودوليًا، مغلقة سفارتها في دمشق، ومُحكمة طوق العقوبات، ومقدمة الدعم لجهات متعددة في المعارضة السياسية والمسلحة. غير أن هذا الموقف لم يؤدِّ إلى نتائج حاسمة، بل ساهم في تعقيد المشهد، وفتح الباب أمام تمدد قوى دولية وإقليمية أخرى، في طليعتها روسيا وإيران.
مع تراجع حدة الصراع، وتشكيل حكومة انتقالية ذات طابع وطني، انطلقت موجة من الانفتاح العربي والدولي على دمشق، ترافقت مع مراجعات أمريكية داخلية أظهرت أن الاستمرار في سياسة العزل لم يعد يجدي، بل قد يؤدي إلى خسارة واشنطن لمواقع استراتيجية في قلب المنطقة.
رفع العلم الأميركي ليس مجرد إعادة فتح لمقر دبلوماسي، بل هو رسالة ذات أبعاد متعددة. إنها عودة محسوبة إلى ملف لا يزال مفتوحاً على احتمالات شتى، وتأكيد على أن الولايات المتحدة ترغب في حجز مكانها مجددًا في الساحة السورية، لكن عبر أدوات ناعمة: دبلوماسية، واقتصادية، واستثمارية.
المشاريع المعلنة، خصوصًا في قطاع الطاقة والبنية التحتية، تكشف بوضوح عن نوايا واشنطن في الدخول إلى سوق إعادة الإعمار، وفرض إيقاع جديد لعلاقاتها مع سوريا من موقع الشريك لا الخصم. ومع ذلك، لا تزال ذاكرة السوريين، كما شعوب المنطقة، تحتفظ بصور قاتمة عن السياسات الأمريكية المتقلبة، التي غالبًا ما ارتبطت بالمصالح لا المبادئ، وبالاستثمار في الأزمات لا حلّها.
القيادة السورية الجديدة أمام لحظة فارقة. لحظة تتطلب التزامًا وطنيًا صلبًا، وقدرة على التفاوض من موقع السيادة، لا التبعية. وبينما يشكّل الانفتاح الأمريكي فرصة لالتقاط أنفاس الاقتصاد، وكسر العزلة، فهو يحمل في الوقت نفسه تحديات دقيقة، تتطلب إدارة ذكية، تبني شراكات دون أن تقع في فخ الاصطفافات أو الاستقطاب.
من جهة أخرى، على الولايات المتحدة أن تُثبت أن خطابها الجديد لا يهدف فقط إلى تحجيم نفوذ الخصوم، بل إلى دعم حقيقي لاستقرار سوريا ورفاه شعبها. المطلوب التزام طويل الأمد، لا مبادرات مشروطة تُسحب عند أول اختلاف. كما أن احترام القرار السوري، وعدم توظيف ملفات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان كأدوات ضغط سياسي، سيكون معيارًا حاسمًا في بناء الثقة.
ختامًا، فإن عودة العلاقات الأمريكية–السورية، إن كُتب لها أن تستقر وتُثمر، قد تكون نموذجًا جديدًا لإدارة ما بعد الصراع، قائمة على المصالح المتبادلة، لا على الهيمنة، وعلى الشراكة، لا على التبعية. ولكن ذلك مشروط بصدق النوايا، وحكمة التنفيذ، واستقلال القرار.