الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العالم بين التحوّل والنزاع.. قراءة فلسفية في مآلات السياسة الدولية

بواسطة azzaman

العالم بين التحوّل والنزاع.. قراءة فلسفية في مآلات السياسة الدولية

عبد القادر حداد

 

يعيش العالم في السنوات الأخيرة حالة من الاضطراب العميق، حيث تتقاطع التحولات السياسية والاقتصادية مع الأزمات الإنسانية والقيمية. لقد بدا المشهد الدولي وكأنه يفلت من هيمنة نظام أحادي القطبية فرض نفسه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ليعود تدريجيًا إلى حالة من التعددية غير المستقرة، حيث تتنافس قوى كبرى كالصين وروسيا والولايات المتحدة، إلى جانب فاعلين إقليميين يصوغون أدوارًا متزايدة في مناطقهم.

من زاوية فلسفية، يمكن النظر إلى هذا الواقع باعتباره تجسيدًا لصراع تاريخي قديم بين منطق “القوة” ومنطق “القيمة”. فالسياسة الدولية، كما عبّر عنها هوبز، تقوم على تصور العالم كساحة صراع دائم بين ذئاب لا تحدها إلا المصالح، بينما قدّم هيغل رؤية مغايرة تعتبر التاريخ مسيرة جدلية نحو الحرية، حيث تتصارع الأفكار ثم تنصهر في أشكال جديدة من النظام والعدالة. إلا أن الواقع الراهن يبدو أقرب إلى رؤية ميكافيلية تؤكد أن الدول لا تتحرك بدافع المبادئ بقدر ما تتحرك بدافع الضرورات الاستراتيجية.

الأحداث الأخيرة في أوكرانيا والشرق الأوسط وآسيا تعكس بوضوح هذا التوتر. فالدول الكبرى ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في الوقت نفسه توظف هذه الشعارات كأدوات ضغط وانتقاء سياسي يخدم مصالحها الجيوسياسية. وهنا يظهر السؤال الفلسفي الجوهري: هل العدالة في النظام الدولي مجرد مفهوم نسبي تحدده مصالح الأقوياء، أم قيمة موضوعية يمكن أن تجد لها مكانًا رغم اختلال موازين القوى؟

إلى جانب ذلك، تكشف هذه المرحلة عن أزمة عميقة في مفهوم “النظام العالمي”. فبينما كان القرن العشرون مطبوعًا بثنائية القطبية، والمرحلة اللاحقة بأحادية أمريكية، نجد القرن الحالي يتشكل على صورة غامضة: تعددية قطبية مشوبة بالفوضى، حيث لم يعد واضحًا إن كانت القوى الصاعدة ستؤسس نظامًا جديدًا أكثر توازنًا، أم أننا بصدد عودة إلى فوضى دولية مقنّعة.

لكن البعد الأكثر خطورة في هذا التحول هو البعد القيمي. فالعالم اليوم يواجه ليس فقط أزمة سياسية واقتصادية، بل أزمة في المعنى. فالتكنولوجيا المتسارعة، والتغيرات البيئية، واتساع الفجوة بين الشعارات والواقع، كلها عوامل جعلت الإنسان المعاصر يشعر بالاغتراب عن المنظومة السياسية التي يفترض أنها تمثله. ولعل هذه الأزمة القيمية هي ما يفسر تصاعد النزعات الشعبوية، وتراجع الثقة بالمؤسسات الدولية، وتنامي الانقسامات داخل المجتمعات والدول.

إن القراءة الفلسفية لما يجري تدفعنا إلى إدراك أن الأزمة الحالية ليست مجرد صراع مصالح، بل هي صراع على تعريف “العالم” ذاته: هل هو ساحة للهيمنة والتنازع، أم فضاء للتعايش وإعادة صياغة عقد إنساني أكثر عدالة؟

وفي النهاية، قد يكون الدرس الأهم أن العالم يحتاج اليوم إلى ما هو أبعد من التوازنات العسكرية أو التفاهمات الاقتصادية. إنه بحاجة إلى إعادة إحياء القيم الكونية التي تتجاوز منطق القوة، وتجعل من السياسة الدولية مشروعًا إنسانيًا قائمًا على العدالة والتكافؤ. فبدون هذا البعد القيمي، ستظل التحولات الراهنة مجرد مقدمات لدورات جديدة من الفوضى والنزاع، بدل أن تكون خطوات نحو نظام عالمي أكثر إنصافًا .

 


مشاهدات 58
الكاتب عبد القادر حداد
أضيف 2025/09/17 - 3:21 PM
آخر تحديث 2025/09/18 - 12:45 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 33 الشهر 12345 الكلي 12030218
الوقت الآن
الخميس 2025/9/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير