صراع الهيمنة والكفاح المسلّح بين الإحتلالين العثماني والبريطاني
غالب الحبكي
لم يكن العراق والعراقيون يدركون أنهم وقعوا بين ناري الاحتلاليين، إذ غزت بلادهم القوات العثمانية، التي لم تجلب لهم غير الاستعباد والإذلال والتهميش، ونهب الثروات،وسرقة قوت أطفالهم. كانت تلك الحقبة مليئة بالقتل العراقيين العراقيون وسفك الدماء، واستمرت تلك الحقبة السوداء لسنوات طويلة الاحتلال العثماني تحت نير الاستعمار، اذ كانت الضرائب الثقيلة تفرض على الفلاحين، مع استضعاف وسرقة الغذاء والحبوب من محصولي الحنطة والشعير والمواشي، بالتالي عمق معانات العراقيين، خاصة مع غياب الصناعات والمهن الحرفية وندرتها في القرن العشرين.
لكن مع ضعف السلطة العثمانية وتراجعها،و تأثير الفساد وفسادها العسكري، الذي نخر قوتها العسكرية، بدأ نفوذها بالتراجع تدريجياً، الى أن عام 1917 في تشرين الأول، حيث د
أقتحت بريطانيا البصرة بقواتها العسكرية، اعلنت عن بدء مرحلة جديدة من الصراع والهيمنة والنفوذ الاستعماري الانجليزي.
سبقت ذلك ملايين من التقارير الاستخبارية التي تنهال على بريطانيا من قبل جواسيسها في الشرق الاوسط، والتي أفادت عن تباين حول موقف”شيعة العراق” بأنهم هل سيكونوا الى جانبها، وحقيقة ولاءهم إلا أن المفاجأة الكبرى بأنقلاب الموقف الشيعي والذي وصف بأنه مؤيداً، إلا أن الحقيقة على الارض مختلفة، بالتالي كان الموقف هو المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الجديد.
لم يكن موقف الشيعة السلبي، والذي كان غير مشجعاً مرحباً، بهذا بالمحتل الجديد فكانت خيبة أمل “أبو ناجي”، من موقف الشيعة الرافض جاء موحداً منذ الوهلة وضد دخول البريطانيين للبصرة.
شرارة المقاومة
بدأت المقاومة المسلحة باستخدام كافة الأسلحة المتاحة، سواء البدائية أو البنادق الألمانية والعثمانية وتلك التي غتنموها من الاحتلال العثماني أو اقتنوها منهم من خلال شراءها من سماسرة الجيش العثماني .
بالتالي كان هذا الرفض الحازم والمسلح شكل صدمة غير متوقعة لبريطانيا، والتي كانت تأمل أن تحظى بتأييد شعبي يسهل احتلالها العراق وإدارته ، لكنها فوجئت بهذه المقاومة الشرسة، والتي لا يمكن مساومتها أو يمكن ثنيها على التراجع.
لطالما كان الفكر الشيعي الرافض لكافة انواع الظلم والاحتلال والتسلط والظلم والاضطهاد والتشريد والتطريد، والذي كان يتمثل في رجال الدين خصوصاً مدينة” النجف الأشرف المقدسة” وهي التي تشكل مركز الإشعاع الفكري الذي له التأثير الفعلي والقيادي ودورة في التحشيد القوى المقاومة، بدأ من سكان الاهوار و مدن جنوب العراق، اذ كان علماء الدين يدركون حقيقة فساد الاحتلال العثماني، وعدم عدالته وصلاح وجوده، وما خلفه من نهب للثروات ، وتجهيل المجتمع الفكري والثقافي المتعمد للاجيال، لعقود طويلة من التهميش والاضطهاد طالت شيعة العراق، ومع ذلك فقد كانوا على يقين بأن القادم سيكون، لن يكون ألا أكثر سوءاً ومن الأسوأ الى الأسوأ، حيث أدركوا أن المحتل البريطاني لن يكون أقل فساداً، و ظلماً وفتكاً، من العثمانيين، بل أكثر استبداداً، لذا، توحدوا لضرورة العمل، و الوقوف صفاً واحداً في مواجهة هذا العدو الجديد. بيتت النية، وعقدوها، على الكفاح المسلح،و بالايمان المطلق، والدفاع عن الأرض والكرامة، انطلقت تلك الجموع المقاومة، يقودهم رجال الدين وقادتهم الذين آمنوا بقضية الوطن و الإسلام والمحافظة على العقيدة، فتحولت أرض العراق، مقبرة للغزاة ، و ساحة مواجهة كبرى بين المقاومة والمحتل.
رجال الدين قيادة و تنظيم المعركة الحاسمة.
توزعت الجبهات القتالية وفق التخطيط الاستراتيجي المحكم، حيث توحدت العشائر العراقية وزعماؤها تحت “لواء المرجعية” وتم توزيع القوات المجاهدة على ثلاث جبهات رئيسية:
«جبهة البصرة» والتي بقيادة السيد المجاهد محمد سعيد الحبوبي (رحمه الله).
«جبهة القرنة» بقيادة السيد المجاهد مهدي الحيدري (رحمه الله)، الذي رغم تقدمه في العمر إذ بلغ الثمانين، إلا أن وجوده كان عنصراً مؤثراً في تعزيز العزيمة وتحفيز المجاهدين على الشهادة دفاعاً عن أرض الإسلام والوطن. اما “جبهة الخفاجية” كانت تحت قيادة الشيخ المجاهد الخالصي (رحمه الله). كانت لهذه التحركات العسكرية وتوزيع الجبهات وقع كبير في تغيير موازين القوى وحساباتها، حيث شكلت صفعة قوية أذهلت بريطانيا وقواتها المحتلة، و التي لم تكن تتوقع سرعة وحجم وزخم المقاومة العراقية التي واجهتها، فوجئت بريطانيا بهذا الموقف الصارم، وتبين لها أن تقاريرها الاستخبارية كانت خاطئة ولم تكن دقيقة ، وأن مقاومة الشيعة كانت هي إحدى أكبر العقبات أمام احتلالها وإدارتها للعراق. كانت قيادات بريطانيا العظمى، و جنرالات لندن يعتقدون أن السيطرة على العراق ستكون سلسة، لكنها فوجئت بعزيمة العراقيين، العراقيون الذين رفضوا الهيمنة الاستعمارية، و أي نوع آخر وأي شكل آخر وجديد من الاحتلال، بعد أن ذاقوا مرارة وظلم الاحتلال العثماني، جأت هذه المقاومة التاريخية، والتي أثبتت أن العراقيين، رغم إمكانياتهم المحدودة، كانوا قادرين على قلب الموازين، وإحداث تأثير كبير في مواجهة القوى العظمى، ليكتبوا صفحة جديدة في تاريخ الدفاع عن الأرض وهوية الوطن .