قراءة معرفية في كتاب السيد السيستاني ودوره السياسي بالعراق
ناجي الغزي
تمهيد معرفي
يُعد هذا الكتاب من الوثائق السياسية والفكرية المهمة التي تؤرخ لدور المرجعية الدينية العليا في العراق، مُمثَّلة بسماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله)، في مرحلة بالغة الحساسية من تاريخ العراق الحديث، خصوصاً في ظل التحديات التي عصفت بالبلاد بعد عام 2003. للكاتب الدكتور صلاح عبد الرزاق، الذي كان فاعلاً سياسياً وشاهداً مباشراً على كثير من تطورات المرحلة، مما يُضفي على الكتاب طابعاً توثيقياً وتحليلياً في آنٍ واحد.
وتعتبر المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الأشرف ركيزة أساسية في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي للعراق، خصوصًا بعد سقوط النظام السابق. يقدّم صلاح عبد الرزاق في كتابه «السيد السيستاني ودوره السياسي في العراق» قراءة توثيقية وتحليلية لدور المرجعية العليا، مُمثّلة بسماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله)، في مرحلة مفصلية من تاريخ العراق الحديث.
قوى سياسية
وتستند هذه الورقة البحثية إلى قراءة موسّعة ومعمّقة في مضامين الكتاب، بعيداً عن النقد أو تحميل المرجعية مسؤولية أخطاء الاحتلال أو القوى السياسية، لتبيان طبيعة الدور القيادي والإصلاحي الذي اضطلعت به المرجعية العليا.
أولاً: الإطار العام للكتاب
صدر الكتاب عن دار المحجة البيضاء، في طبعته الأولى عام 2019، ويقع في 238 صفحة من القطع المتوسط. ينقسم إلى عشرة فصول، تستعرض بترتيب زمني وتحليلي تطور الفكر السياسي الشيعي، وسيرة السيد السيستاني، ومواقفه من الاحتلال، والانتخابات، والدستور، والفتن الطائفية، والاحتجاجات، والدفاع عن وحدة الدولة.
ويمضي المؤلف في تقديم عرض غنيّ بالأدلة والشواهد التاريخية والاجتماعية والسياسية، مستنداً إلى مواقف رسمية صادرة عن مكتب السيد السيستاني موثقة وأحيانًا خطب و رسائل وتصريحات نادرة صادرة عن مكتب السيد السيستاني.
ثانياً: البُعد التاريخي الوطني للمرجعية
ينطلق المؤلف من تأكيد أن المرجعية الدينية في النجف ليست مؤسسة دينية تقليدية منغلقة على ذاتها، بل كانت وما زالت جزءاً فاعلاً في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع الشيعي، بل والمجتمع العراقي بأسره.
احتلال بريطاني
ويستعرض الكتاب هذا الدور بدءاً من الاحتلال البريطاني للعراق، مروراً بمواقفها تجاه قضايا كبرى مثل فلسطين، وتأميم النفط، وحرب السويس، وانتفاضة 1991، وصولاً إلى مرحلة ما بعد سقوط النظام في 2003.
ويؤكد الكاتب على أن السيد السيستاني يمثل استمراراً لهذا الدور التاريخي، لا باعتباره زعيماً دينياً فقط، بل حاملاً لرسالة المسؤولية الاجتماعية والإنسانية في زمن الأزمات. إذ تحوّلت المرجعية بقيادته من فضاء تقليدي يتسم بالصمت السياسي، إلى فاعل رئيسي في هندسة التحول الديمقراطي، وبناء المؤسسات، وتهدئة الصراعات، دون السقوط في فخ السياسة اليومية. ثالثاً: المرجعية والمرحلة الانتقالية بعد 2003 يشير المؤلف إلى أن مرجعية السيد السيستاني اتخذت مساراً جديداً بعد 2003، إذ وجدت نفسها أمام مسؤولية أخلاقية وتاريخية لم تُتح لها في العقود السابقة، نتيجة سقوط الدولة المركزية وغياب المؤسسات الوطنية. وعليه، أصبحت المرجعية الضامن الوحيد لوحدة العراق وسلمه الأهلي، وصمام أمان للهوية الوطنية والدينية ،ورفض أي محاولاته لتفكيك البنية الوطنية على أساس مكونات وهويات فرعية.. كما رفض السيد السيستاني أي تعاون مباشر مع قوات الاحتلال، وأصرّ على كتابة الدستور من قبل لجنة منتخبة شعبياً.
مما عكس إيمان المرجعية العميق بالدولة المدنية والديمقراطية.
ومع ذلك، فإن المرجعية لم تتورط بالعمل السياسي أو دعم حزب معين، بل كانت تتعالى على الاصطفافات الضيقة، وتحافظ على مسافة واحدة من الجميع، وتؤسس لرؤية تتجاوز اللحظة السياسية إلى المشروع الوطني العام.
كما يقدم الكتاب السيد السيستاني كزعيم روحي، لكنه أيضاً عقل سياسي حذر، يعرف متى يتدخل، ومتى ينأى بنفسه عن الصخب، محققاً بذلك معادلة نادرة بين الحياد والقيادة. فهو لم يسعَ إلى تأسيس «دولة دينية»، بل أصرّ على قيام دولة مدنية بمرجعية دستورية، تحفظ فيها الحريات وتُصان الحقوق وتُراعى المكونات.
رابعاً: المرجعية والاحتلال بين التحدي والاحتواء
من المواقف اللافتة التي وثقها المؤلف هو رفض السيد السيستاني استقبال أي مسؤول أميركي.
في الوقت الذي كانت فيه قوات الاحتلال تسعى لإضفاء الشرعية على سياساتها. وكان السيد يصرّ على التعامل فقط مع الأمم المتحدة كمظلة دولية، رافضاً أي اعتراف بسلطة الاحتلال. بل إن السيد السيستاني كان له دور أساسي في فرض الانتخابات وإلغاء مشروع كتابة الدستور من قبل مجلس معين من الاحتلال.
وهنا تظهر بوضوح قدرة المرجعية، في مواجهة مشروع الاحتلال الأمريكي، لإعادة تشكيل الدولة العراقية وفق أسس طائفية وهشة، والقيام بإفشال مشاريع الاحتلال الناعمة، وتكريس الإرادة الشعبية باعتبارها مصدر الشرعية السياسية. بهذه المواقف المتصلبة مارس السيد السيستاني دوراً سيادياً وطنياً بامتياز.
فرفض الصيغة التي أراد المحتل فرضها، وأصرّ على إجراء انتخابات عامة تُفرز ممثلين حقيقيين للشعب، وألزم قوات الاحتلال باحترام إرادة العراقيين عبر القنوات الأممية، مؤكداً استقلالية القرار العراقي حتى في أحلك اللحظات.
خامساً: موقف المرجعية من الانتخابات والدستور
لعبت المرجعية دوراً مركزياً في دفع العراقيين للمشاركة بالانتخابات رغم الظروف الأمنية العصيبة. كما ضغطت لتُكتب مسودة الدستور من قبل جمعية تأسيسية منتخبة، ما أضفى شرعية وطنية على النظام السياسي الجديد.
وأوضح المؤلف أن السيد السيستاني كان مدافعاً عن إقامة دولة مدنية دستورية، تضمن الحقوق لجميع العراقيين دون تمييز ديني أو طائفي أو قومي. وقد أصرَّ على أن تُكتب مسودة الدستور من خلال لجنة منتخبة شعبياً، وليس من لجنة معينة.
كما أن دعمه القوي للانتخابات عام 2005، رغم الظروف الأمنية العصيبة، كان موقفاً تأسيسياً للحياة السياسية الجديدة، مؤكداً أن «صوت المواطن هو مصدر الشرعية».
سادساً: موقف المرجعية من السياسيين
يؤكد المؤلف أن المرجعية كانت حازمة في إبقاء نفسها خارج دائرة السلطة. فعلى الرغم من محاولة القوى السياسية الاستظلال باسم المرجعية، إلا أن السيد السيستاني:
رفض استقبال السياسيين بعد عام 2011، وأغلقت المرجعية أبوابها أمام السياسيين ورفضت استقبالهم، كما طالبت مراراً وتكراراً بالإصلاح ومحاربة الفساد، مؤكدة في خطب الجمعة: «لقد بُحت أصواتنا ونحن نطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد.» وهو موقف واضح يدلّ على أن المرجعية لم تكن طرفًا في الحكم، بل كانت في موقع النصح والتقويم.
هذا الموقف الحاسم يؤكد أن المرجعية لا تتحمل وزر السياسات الخاطئة التي انتهجتها القوى الحاكمة، بل كانت دومًا في موقع النصح والتقويم، لا في موقع القرار والتنفيذ.
سابعاً: فتوى الدفاع الكفائي
عندما اجتاح تنظيم داعش مدن العراق عام 2014، وأوشك على إسقاط بغداد، أطلق السيد السيستاني فتواه الشهيرة بـ»الدفاع الكفائي»، والتي كانت لحظة تحوّل مصيري في تاريخ العراق المعاصر. وقد نهض آلاف الشباب العراقيين استجابة لتلك الفتوى، وشُكل الحشد الشعبي، الذي لعب دوراً حاسماً في استعادة الأراضي وتحرير المدن.
كما تُعدّ فتوى الدفاع الكفائي أبرز موقف عملي للمرجعية، حيث أنقذت هذه الفتوى الدولة العراقية من الانهيار، وعززت اللحمة الوطنية، دون أن تسمح بتحول الحشد إلى أداة حزبية أو سياسية، إذ أكدت المرجعية دائماً ضرورة دمج المتطوعين في الأجهزة الرسمية.
ثامناً: مرجعية الدولة لا مرجعية الطائفة
ركزت المرجعية على مشروع وطني شامل، رافضة الانجرار إلى الصراعات الطائفية، كما في عامي 2006–2007. إذ رفض السيد السيستاني الرد بالمثل على خطاب التكفير، وأصرّ على التهدئة ووحدة الصف الوطني.
من السمات البارزة التي أشار إليها المؤلف هي العقلانية الهادئة التي اتسمت بها قرارات السيد السيستاني، بعيداً عن الانفعال أو المواقف الراديكالية. في أوج الحرب الطائفية (2006–2007)، حيث ركزت المرجعية على مشروع وطني شامل، رافضة الانجرار إلى الصراعات الطائفية، كما رفض السيد السيستاني إصدار أي فتوى مقابلة لخطاب التكفير، وأصرّ على التهدئة ووحدة الصف الوطني. ودعا إلى ضبط النفس، ورفض الانجرار إلى الفتنة.
كما ينتصر الكتاب لرؤية السيد السيستاني في بناء دولة المؤسسات والقانون، لا دولة الطوائف والمليشيات. ويستعرض الكاتب بعض رسائل السيد السيستاني للقادة السياسيين، والتي كانت تؤكد على: اعتماد الكفاءة في التعيينات لا المحاصصة، ومحاربة الفساد، وتقليل الامتيازات، واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، ودعم المجتمع المدني.
تاسعاً: مرجعية القيادة الأخلاقية
يقدم المؤلف السيستاني على أنه مرجعية قيادة لا مرجعية تقليد فقط، أي أنه يُمارس دوره الديني كمرجع تقليد، لكنه أيضاً يقوم بدور الأب الوطني، والضامن الأخلاقي، والموجه السياسي، دون أن يتلوث بواقع السياسة أو يدخل في ألاعيبها.
فالمرجعية، كما يُظهر الكتاب، بقيت على مسافة واعية من القوى السياسية، بل وانقلبت في موقفها عليها حين شعرت بانحرافها، رافضة استقبالهم، ومعلنة بوضوح: «لقد بُحت أصواتنا».
عاشراً: الخلاصة المعرفية
يقدم الدكتور صلاح عبد الرزاق هذا الكتاب مادة توثيقية وتحليلية مهمة لفهم طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في العراق، من زاوية مرجعية دينية اختارت أن تكون صوتاً للشعب لا سلطة عليه. وهو محاولة لفهم كيف يمكن للقيادة الروحية أن تكون رافعة للوطن في أوقات الانهيار. ولعل أهم ما يميز هذا الدور هو الصدق، والحذر، والاستقلالية. كما أنه يُرسّخ الفكرة الجوهرية بأن السيد السيستاني ليس حاكماً سياسياً، وإنما زعيماً روحياً وطنياً مارس دوره من موقعه في النجف، رافعاً راية الاعتدال، الوحدة، والكرامة الوطنية. فالمرجعية أثبتت خلال العقدين الماضيين أنها مرجعية قيادة أخلاقية وفكرية لا مرجعية تقليدية فحسب. فهي لم تكن جزءاً من السلطة، بل كانت صوت الإصلاح والعقلانية والضمير الوطني.
وبذلك، فإن هذا الكتاب يُعد مرجعاً مهماً لفهم دور السيد السيستاني كقائد أخلاقي ومعرفي ساهم في تثبيت أسس الدولة العراقية في مرحلة الانهيار.