الجد الكبير ...بين ضلال الطريق وصوابه في قصص عبد الامير المجر
حسين حمزة الجبوري
لقد تناول السرد العراقي رمز " السلطة المتعالية " وما تحمله من دالات مهمة في أبعادها الميتافيزيقية – والوجودية ، وكان القاص عبد الامير المجر قد وقف عند هذا الرمز في قصتين من قصصه الأخيرة ، الأولى قصة " عودة الجد الكبير " التي هي دعوة أو "إبلاغ " من والد الشخصية لولده بالاستعداد لحضور تجمع العائلة في صالة كبير " آل رحمن " للقاء الجد الكبير " عبدالرحمن " بعد عودته من الموت ، مما أثار استغراب شباب العائلة ، ما بين الشك من هذه الدعوة ، وأمر العودة للحياة مرّة أخرى التي لا تتحقق إلا في عصر المعجزات وبين السخرية و الانتظار في الوقت نفسه ، وهكذا لبى أبناء العائلة جميعا الدعوة التي بدت ضرورية لمعرفة أصلهم ، ولكن الجد "عبدالرحمن " لم يحضر في موعده ، وطال انتظارهم له ، وقد انتاب الجميع النعاس ، فناموا قرب بعضهم في زحمة الصالة بالحضور ، وفي نومهم " حلَّ " عليهم طيف الجد الكبير ، ولكنه صعقهم بخبر فاجع ، وعجيب ، بأنه كان عقيما ، ولم ينجب أحدا من أجدادهم ، على الرغم من أنه تزوج من نساء عدة ، مما دعاه لتبني أطفالا من مشارب شتى ، ولقد عاش هؤلاء الأطفال وكبروا دون أن يعرفوا أنهم ليسوا أخوة ، و" هكذا التأم شمل العائلة التي عاشت وراحت تتوالد وتكبر وتتوزع بين الأماكن الكثيرة .." كما يقول الطيف ، أو الرؤيا التي هي في القاموس " ما يراه النائم في نومه " وهي " كشف تجلّي الذّات الإلهية للصوفيين "..ولكن لم يكن هؤلاء من الصوفيين ، إنما كانوا يبحثون عن ذواتهم وأصلهم ، ومصيرهم أو أنهم يبحثون عن حقيقة الوجود ، وهذه الحقيقة فعالية حركية لا تتوقف ، ولاسيما أن الإنسان وحده هو الذي يسعى إليها ، والكائن وحده هو من يبحث لمعرفة كينونته من خلال علاقاته المتناقضة مع موجودات العالم الأخرى ، لتكون هذه الموجودات نافذة يطل من خلالها على كينونته بما يصاحب هذه العلاقات من توترات يراد منها كشف الحقيقة ، وقد لعب الفن والسرد في هذه الساحة المهمة لكشف حقيقة الذات ، و ماهيتها ، ولكن " الكشف " ربما يتم تزييفه وتحريفه بإرادة سلطة عليا بما فيها السلطة الميتافيزيقية أو سلطة النظام الأبوي للحفاظ على سطوته وقوته ، مما يحجب الحقيقة ، ولهذا كان نيتشه يهاجم جميع وسائل التزييف و الخداع ، و لاسيما في الأخلاق بأبعادها الميتافيزيقية – الدينية بما تحمله من تبعات مختلفة تعيق سعي الإنسان للتحرر من ربقة التبعية لمنبع متعال ، ولاسيما ان " الجد الكبير " هو أساس المتعالي ، و منبعه الأبوي ، وهو الذي يعيق أي تحول أو تحرر من جحيم تزييف هذه السلطة للحقائق فهي تفرض حضورها على الجميع ، وهي التي تقمع حرية الكائن ، ومن ثم كان " الطيف " اختراع – ميتافيزيقي - و خدعة من خلال أساس " الطيف " بما يحمله من أبعاد تخيلية – شعرية ، ومن ثم فهو رهين توهمات مختلفة ، و لكن شباب العائلة حاولوا ان يجعلوا من هذا الطيف حقيقة ، مستغلين ما كشفه من التشكيك في الأصل وهذا يسندهم في التمرد على ما يفرضه الاباء أو السلطة المتعالية عليهم بوصفهم من " الأصل " واحد ، مقابل ذلك كانت السلطة الأبوية تستند إلى قوة هذا " الأصل " وحقيقته استنادا إلى الشبه بين ابناء العائلة ، وصورة الجد الكبير عبدالرحمن المعلقة في صدر الصالة ، وهذا الشبه – عندهم - يدحض " الطيف " ، ويكذبه ما دام هو طيفا متخيلا ؛ ولما كانت العائلة ، والقبيلة هي الأخرى متعال بقوانينها ، وقيمها التي تحبط وتعيق إدراك الذات لذاتها من خلال استقلاليتها – إذ إن الآخرين هم الجحيم - أو بتعبير هيدغر أن " الهُمْ " يفرض على الكائن ضروراته ولاسيما ان الموجود / الكائن يدرك أنه : مقذوف إلى العالم دون أي اختيار من قبله وينبغي تشكيل وجوده من خلال حريته التي يسعى إليها لاختيار طريقه للوصول إلى هذه الذات وكينونته ، ولكن السلطة المتعالية تعيق حريته وبحثه عن حقيقته ، لأن السلطة على نحو عام لها رغبه في منع السؤال ، بل تحريمه ، ومن ثم لا تقبل البحث عن كينونة رعيتها لمعرفة ما في هذا الموجود من خوف من الحاضر و المستقبل ، والقلق الذي هو شعور عميق عند الموجود ، وما تحسه الذات المقموعة والمتوجسة من زيف " الأصل " وهنا كان " الاختلاف " عميقا وبدت الأسئلة أكثر شمولا ، ولكن سلطة عائلة" ال الرحمن " لم تنتفض على الأصل الأبوي - الغيبي ، وأن أُثيرت فيه الشكوك ، لأن هذه السلطة تعد قبول الواقع القائم حتى وان كان تزييفا ضرورة للعلاقة البشرية التي كانت قائمة بين أبناء العائلة حتى لكأن العلاقات البشرية وضروراتها ، تقبل الزيف على حساب الحقيقة ، لهذا ظلت العائلة تحتفل بهذا اللقاء من كل عام ، وكائنهم قبلوا " الخديعة " ولكنهم لم يقبلوا " الخسارة " وقد بقيت آصرتهم العائلية المتوهمة قائمة على " الأصل " المتوهم ، لأن المتعالي هو ركن ركين من أركان تجربتهم الحياتية ، والروحية مع أنهم ضلوا طريقهم إليه ، أو قبلوا بهذا الضلال للوصول إلى حقيقتهم ، وهكذا يبقى الإنسان يطرح اسئلته في الضلالات كلها ، وهو يبحث عن طريق اليقين أو " ما لم ينوجد بعد " ، ومن ثم يبقى في بحث مستمر عن كينونته و مصيره . أما القصة الأخرى للقاص عبد الامير المجر ، فهي قصة " حارسان " ..إذ يجد الطفل نفسه ، وقد تاه عن عائلته وأصله ، وهو الآن يبحث عن طريق الوصول إليهم ، وقد بدت الحكاية مثل الحلم – كما في القصة السابقة – فوجد الطفل نفسه بين عملاقين " يكاد يلامساني واشعر إن كل واحد منهما يريد أن يستأثر بي لوحده .." وعلى الرغم من أن الطفل في البداية صدق نوايا العملاقين في إيصاله لطريق أهله ، وشعر بالاطمئنان معهم ، ولكنه سرعان ما وجد نفسه في ورطة ، فقد كان العملاقان مثله لا يعرفان الطريق ، ويعيشان الضلالة ذاتها ، والتزييف نفسه بل والوعود الكاذبة عينها ، فهما يتخبطان في الطرق والمفازات دون دليل يوصلهم ، فهل هذه هي الأخرى رحلة الى الوهم أم هي رحلة البحث عن اليقين ؟!! لكأن النهج الميتافيزيقي يفرض هذا السؤال في هذا التيه الطويل ، ولهذا ظل الطفل يسأل عن طريق أهله أو إلى أصله ، ولكن العملاقين كانا متنافرين ، يعيشان لحظات من الاختلاف العنيف ، فان طرح العملاق الذي على اليمين رأيا خالفه الآخر الذي على اليسار ، فيرد العملاق الأول على الآخر بالضرب ليردها هذا الآخر عليه فتقع ضرباتهم على رأس الطفل وجسده ، على هذا " الإنسان الحائر – الضال " الباحث عن مصيره ، فيفقد الطفل وعيه ، وحين يستعيد هذا الوعي يجد نفسه معهم في تيه آخر ، وهكذا تستمر رحلة الحلم " التوهم " وحين يستريحون جميعا ، يجد الطفل العملاق الذي على يمينه " يتهجد وكنت أرى الدمع ينهمر من عينيه بصمت ، " واما الذي على يساره فكان " مشغولا بتأمل ذرات الرمل التي راح يتفحصها وأحيانا ينفخها " و يبدو ان هذه الثنائية للعملاقين يمكن ان تحيلنا إلى ثنائية الدين – والعلم ، التي شغلت الثقافة والفكر والأدب طويلا وما زالت ، فعملاق اليمين –هو رمزا للدين و عملاق اليسار رمزا للعلم وهما في ضلالاتهما الكبرى ، فضلا عن هذه الرمزية ، فأن هذه الرحلة تحمل أيضا في طياتها رحلة الوجود نفسه ، أو أنها رحلة زمن الكائن الكوني في هذا الوجود الغامض ، وقد احجم الطفل عن طرح السؤال الوجودي الممنوع ، لأن سؤاله يثير غضب العملاقين ، وينشب بينهما الصراع فيكون ضحيته ، ولكن بعد التحول السريع في الزمن السردي ، يجد الطفل نفسه بعيدا عن العملاقين فلقد اختفيا عن المشهد السردي تماما ، وسرعان ما يجد الطفل نفسه ، وقد صار شابا يافعا ، في مواجهة مصيره ، وبحثه عن حقيقة الوجود ، فكأن التيه " الأول " انتهى ليجد نفسه في طريق يسعى فيه لأن يسترد حريته ووعيه ، وهو يبحث عن كينونته ، ومن ثم لم يعد الشاب راغبا في العودة إلى أهله ، أو هذا الضلال ، فهذه الأرض واسعة وهو يريد أن يسعى فيها ، ليواصل أسئلته دون قيد من احد للوصول إلى الطريق الذي يهديه إلى آفاق طريق الذي " لم ينوجد بعد "- بحسب هايدغر - وهو رصد فيما يظن أنه سعى في طريق الآتي من الزمن ، و المستقبل الذي هو شاغل الفن – أصل العمل الفني – إذ إن الفن هو الذي " يؤسس للوجود من خلال الكلام " / ينظر إنشاد المنادي -62-63/ والفن عموما ومنه القصة والشعر هو الذي يرصد " مالم ينوجد بعد " في الوجود الذي ما يزال في غائبا ، ويحاول الفن أن يستنبطه من خلال ما يرصده الفن في سعي الموجود إلى ما ينتظره في المستقبل ، فهل ما يزال هذا طريق في أفق المستقبل ،أو أنه ما يزال يتبلور في مكان آخر، وإن سعي الكائن / الموجود ما يزال يتعثر في الوصول إليه ومن ثم يحاول مرات للوصول ؟! تلك أسئلة الموجود / الكائن التي تظل قائمة في كل زمان و مكان . وقد تبنى عبد الامير المجر هذه الأسئلة بقصدية شعرية في قصتيه ولاسيما أنه ترك نهاياتهما مفتوحة ، ويبقى سؤال " الأصل " قائما ، وسؤال شباب عائلة ال رحمن في الأصل والخديعة مطروحا ،و طريق الطفل- الشاب قائما أيضا ، وهذا يعني أننا جميعا نبحث عن طريق الذي " ما لم ينوجد بعد ". في الشعر والحياة.