الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رحيل صباح كجه جي... رجل من زمن البناية الحمراء
رياض شابا

بواسطة azzaman

رحيل صباح كجه جي... رجل من زمن البناية الحمراء

رياض شابا

رحل صباح كجه جي ابن الثالثة والتسعين قبل أيام. علمت بالخبر من ابنة عمته زميلتنا إنعام المقيمة في باريس. وماعدا الحزن، تنتابني مشاعر شتى وأنا اكتب إليها كلمات المواساة بعراقيّ انطفأ هناك.. ما وراء الحدود، لكن روحه ظلت مشدودة إلى الداخل، امتداداً لعمر أفنى معظم سنواته في خدمة وطن ينشد الاستقرار والنماء.

غيابه الأبديّ يحيلني إلى زمن لا يُنسى، عندما كان هو مديراً عاماً للدائرة الصناعية في وزارة التخطيط، يفتح وأقرانه أبواب مكاتبهم مشرعة أمامي، كي أخرج بصيد صحفي ثمين، يحكي جانباً من نهوض ملموس، ببرامج تنموية مستدامة، ترسم ملامحها الرئيسة هنا، ضمن خطط سميت ب «الانفجارية» أحياناً.!

وراء التفاصيل

كل شيء يتم وفق أسس مدروسة مسبقا، مستمدة من واقع البلد وامكاناته الطبيعية والبشرية، وفق جداول زمنية وكلف محسوبة تتم متابعتها بدقة وصرامة، لا تسمح بأي تلكؤ، ولا ترضى بأي اعوجاج أو تسرب أو نضوح! أحثّ الخطى سعياً وراء التفاصيل، وبالكاد ألحق بخطاهم، يملؤني زهو حقيقي وأنا أتنقل بين ممرات تلك «البناية الحمراء» وطوابقها الشامخة بكبرياء، الرابضة بهدوء على ضفة دجلة بجانب الكرخ، مرتدياً أفضل ما عندي من «بدلات» وربطات عنق وأحذية لشركات عراقية «مفخرة انتاجنا الوطني». إنتاج وعمل يشمل مختلف مناحي الحياة.

أشعر بالأمل يكبر ويتجدد وأنا أرى جارتي الخالة «صلحة « تذهب إلى صف «نحو الامية « كما كانت تسميه في البداية. وفي المساء تضحك مع حجي راضي يردد «نحباني للو...»، وتقرأ «راشد يزرع». لتتحدث في مرحلة لاحقة عن تعليم إلزاميّ مجانيّ وجامعات ومستشفيات ومدينة للطب وصناعات للنفط والصلب ومعامل الاسكندرية حيث السيارات والجرارات، ونهر ثالث وسدود وبحيرات وصحراء تكافح، وجسور وطرق ومترو أنفاق وقطارات؟.

بطالة تتراجع، وسياح يزورون مدننا الآثرية ومتاحفنا وأسواقنا العامرة بالخير والتاريخ. وأفواج عراقية تذهب للاستجمام في منتجعات وشواطئ اوروبا ... ثم تنتابني دهشة ممزوجة بالفخر والاعجاب وأنا أسمع من يهمس في أذني: إذا ما استمرت خطط التنمية وفق ما مرسوم لها فإن العراق سيخرج من بوتقة «العالم الثالث» بلا رجعة....!

تظل الفكرة تلازمني وأنا جالس في الكافتيريا الأنيقة المطلة على دجلة وشارع الأحلام «أبو نؤاس» في الشاطئ الآخر، في انتظار مقررات الهيئة التوجيهية لمجلس التخطيط التي تنعقد كل اثنين أو ثلاثاء، مستمتعاً باشهى طبق «تبولة» وألذ «ساندويج» تناولتهما في ذلك «العصر». عصر ابتدأ من مطلع الخمسينيات، عندما ولد مجلس الإعمار وأحدث قفزة هائلة في جميع ميادين التعمير. منها مشاريع وطنية استراتيجية وتنموية وخدمية كبيرة لا يزال العراق يحتفظ بالكثير منها، بل أن معظمها التي نفذت في عهود مابعد الملكية ولدت داخل مجلس الإعمار، بما فيها المكان الذي أجلس فيه الآن، وجسر الجمهورية الذي كان سيسمى جسر الملكة عالية، والذي اعبره ذهابا وايابا كلما قصدت وزارة التخطيط ...!

حتى الراحل صباح كجه جي نفسه، والذي شغل مناصب عليا في وزارة الصناعة أيضاً، ينتمي إلى زمن مجلس الإعمار الذي تعين فيه مهندساً بعد تخرجه من جامعة ألينوي الأميركية عام 1956، ليبدأ رحلته الطويلة مع مشوار التنمية والتخطيط والإعمار. وأنا أيضاً أحببت الكلمة في سن صغيرة. كنت أسمعها تتكرر في الأخبار عبر ذلك الراديو الضخم الذي بحجم المبردة ويعمل ببطارية السيارة «السائلة». كان أبي قد ابتاعه إثر تعيينه في مستوصف «باره» الملكي الذي افتتح للتو في تلك القرية الأيزيدية النائية في ريف قضاء سنجار..

توقف سيارة

هناك، كان يزورنا أشخاص كثيرون، موظفون، اداريون، معلمون، رجال شرطة وجمارك ... يتوقفون في بيت «شابا الدختور» لنيل قسط من الراحة أو تناول وجبة طعام. وذات نهار قائظ توقفت سيارة أمام البيت تقل سيدة بيضاء تتكلم الانجليزية، يرافقها شخصان أحدهما عراقي. وعرفت فيما بعد أنهم في مهمة تخص مجلس الإعمار... وعرفت أيضاً أن بيتنا الواسع والمستوصف والمدرسة ودور المعلمين ومنشآت حديثة وطرق موزعة في قصبات مماثلة في «لواء» الموصل هي من ثمار المجلس ايضا... و» عمّر يا معلّم العمار. «...!«ها وين وصلت...؟». أرفع رأسي لأرى وجه جاسم الزبيدي قبالتي بضحكته المعهودة. وهو غير المصور الراحل بل زميل في مجلة «وعي العمال» وموظف في الوزارة. صديق مقرب نقطع بعض الوقت في الكافتيريا لنواصل حديثنا في لقاء ليليّ مع علاء الدين حسين ومحمود عبد اللطيف عوني ومحمد السبعاوي. نستمتع بنسمات النهر الخالد وعالمه الرحب ونتحاور ونحلم. «ما أدري وين وصلت يا جاسم!». ليتك تقرأ خواطري هذي، بعد سنوات سبعينية مسرعة طيبة شهدت ابتعادي عن السعي وراء الأخبار بسبب تفرغي كلياً لمهام التحرير.

 الا انني ومع دخولنا عقد الثمانينيات، وجدت نفسي في أحد الايام داخل «البناية الحمراء» من جديد، بناء على موعد مسبق مع سيروان عبد القادر «الجاف»، مدير عام دائرة المباني والخدمات في وزارة التخطيط، أستكمل تحقيقاً مطولاً عن قصر المؤتمرات المستوحى من قصر الأخيضر، وفندق الرشيد «الديلوكس»، وهما صرحان كبيران مع منشآت وفنادق أخرى شُيدت استعداداً للقمة السابعة لدول عدم الانحياز التي ستعقد في بغداد .1983

كنت وزملائي قد أبرقنا النبأ الى بغداد من هافانا حيث القمة السابقة 1980 التي اتخذت القرار. إلا أن دويّ المدافع على الحدود الشرقية حال دون انعقادها، فذهبنا إلى نيو دلهي التي حلت محل العاصمة العراقية، وهناك جرت مفاوضات صعبة ينقل لنا تفاصيلها طه البصري رئيس البعثة الاعلامية، وكيف انهاتفضي اخيرا بفوز العراق  بحق انعقاد القمة التالية، 1986. وهو ما لم يحصل للسبب ذاته ايضا. ومن هراري التي أصبحت المكان البديل، كنا نتابع الجلسات، لكننا لم نعد نكترث باي حديث يخص القمم بل ان الجهود باتت تتركز على إنهاء الحرب. ...!ثم سكتت المدافع ووضعت الحرب أوزارها. إلا أن أحدا لم يعد يعير أهمية للتنمية وبرامجها، لان هواجس الناس بدات تاخذ منحى اخر، وهمومهم  تكبر مع حرب ثانية وحصار وجوع وفقر وحرب ثالثة وماتلاها ..كل هذا و البناية الحمراء في مكانها، تحكي للاجيال صفحات من تاريخ بلاد كتب عليها الانتظار، اما انا فقد فقدت ذلك الشعور السابق بالزهو حتى زمن اجهله ..! .

ولا يسعني في الختام، الا ان اسأل الرحمة لروح الفقيد صباح كجه جي وكل الراحلين الذين ورد ذكرهم في سطوري، متمنياً العافية وطول العمر للأحياء منهم.


مشاهدات 366
الكاتب رياض شابا
أضيف 2024/03/22 - 9:59 PM
آخر تحديث 2024/04/27 - 3:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 340 الشهر 10979 الكلي 9136886
الوقت الآن
الأحد 2024/4/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير