الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
متى يكون للعلم فضاؤه ؟

بواسطة azzaman

متى يكون للعلم فضاؤه ؟

إسماعيل محمود العيسى

 

تتردد في الخطاب العام، وخصوصًا في وسائل الإعلام والمنتديات السياسية، عبارة «الفضاء الوطني» بوصفها معيارًا غير مكتوب لتقييم أهلية الأفراد لتولي المناصب العليا، وكأن القبول في هذا الفضاء شرطٌ سابق على الكفاءة والخبرة، غير أن المثير للتأمل؛ بل وللقلق المعرفي، أن هذا المفهوم لم يجد طريقه يومًا إلى المجال الأكاديمي، فلم نسمع – على اتساع التجربة الإنسانية وتعدد نظم الحكم – عن أستاذ جامعي أو باحث علمي جرى تقييمه أو قبوله على أساس «الفضاء الأكاديمي» قبل تكليفه بمنصب قيادي في التعليم العالي أو في المؤسسات ذات الصلة بالمعرفة والإشراف العلمي.

مسألة لغوية

هذا الغياب لا يمكن اعتباره مسألة لغوية أو اصطلاحية فحسب، بل يكشف عن إشكالية أعمق تتصل بطبيعة العلاقة بين السلطة والمعرفة، وبمدى الاعتراف العملي بمبدأ الحرية الأكاديمية بوصفه أحد أعمدة الدولة الحديثة، فالفضاء الأكاديمي، وفق الأدبيات الدولية، ليس كيانًا نخبويًا مغلقًا، ولا شبكة علاقات شخصية، بل منظومة قيم ومعايير تقوم على الاستقلال العلمي، والكفاءة المثبتة، والنزاهة البحثية، والتراكم المعرفي، والمشاركة المؤسسية في صنع القرار الأكاديمي.

وتؤكد المرجعيات العالمية أن استقلال الفضاء الأكاديمي شرط لازم لتحقيق الجودة والاعتماد، فقد نصَّ إعلان اليونسكو بشأن أوضاع هيئات التدريس في التعليم العالي (1997) على أن الحرية الأكاديمية والاستقلال المؤسسي عنصران جوهريان لضمان جودة التعليم والبحث العلمي (UNESCO, 1997, paras. 26–31)، كما شددت مبادئ الرابطة الأوروبية لضمان الجودة في التعليم العالي (ESG 2015) على أن اختيار القيادات الأكاديمية يجب أن يستند إلى الكفاءة الأكاديمية والخبرة الإدارية، بعيدًا عن التدخلات غير الأكاديمية (ESG, Standard 1.1 & 1.2).

وتذهب الشبكة الدولية لوكالات ضمان الجودة في التعليم العالي (INQAAHE) في إرشاداتها إلى ربط الحوكمة الرشيدة بوجود فضاء أكاديمي فاعل يشارك في رسم السياسات المؤسسية واتخاذ القرار، معتبرةً أن تهميش هذا الفضاء يُفضي مباشرة إلى تراجع الأداء المؤسسي وضعف الثقة الدولية بالمؤسسات التعليمية (INQAAHE Guidelines, 2018, Section II)، كما تؤكد تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن الأنظمة التعليمية التي تُدار بمعزل عن الاستقلال الأكاديمي تفشل، على المدى المتوسط، في بناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار (OECD, Education at a Glance, 2023, pp. 45–47).

قرار علمي

إن تغييب مفهوم «الفضاء الأكاديمي» من منظومة الاختيار والتكليف لا يؤدي فقط إلى إضعاف الجامعة بوصفها مؤسسة، بل يُنتج سلسلة من الآثار المتراكمة، تبدأ بتسييس القرار العلمي، وتمرّ بإضعاف البحث الرصين، وتنتهي بتآكل معايير الجودة والاعتماد، ولهذا فإن أغلب نماذج الاعتماد المؤسسي الدولية، ومنها( ISO 21001:2018 ) الخاصة بإدارة المؤسسات التعليمية، تشترط وجود هياكل حوكمة تضمن استقلال القرار الأكاديمي وربطه بالخبرة والمعرفة لا بالاعتبارات الخارجية (ISO 21001:2018, Clause 5 & 7).

وفي ضوء ذلك، يظل السؤال مشروعًا في كل سياق إنساني عام: إذا كانت المجتمعات حريصة على أن يكون العمل العام نتاج توافقات واسعة، فلماذا لا يُمنح العلم حقه في فضائه الطبيعي؟ ولماذا لا يُنظر إلى القبول داخل المجتمع الأكاديمي بوصفه معيارًا موضوعيًا لتولي المناصب التي تمس جوهر التعليم والبحث والإشراف العلمي؟

إن استعادة الفضاء الأكاديمي لا تعني القطيعة مع الأنظمة والأحزاب ذي السياسية أو المجتمع، بل تعني إعادة التوازن بين السلطة والمعرفة، وحماية الجامعة من أن تتحول إلى أداة، بدل أن تبقى عقلًا نقديًا ومنصة إنتاج للمعرفة، وسيبقى السؤال مفتوحًا، يتجاوز الزمان والمكان: متى يكون للعلم فضاؤه؟ ومتى يُسمح للمعرفة أن تختار من يمثلها، لا أن تُفرض عليها؟

 


مشاهدات 169
الكاتب إسماعيل محمود العيسى
أضيف 2025/12/30 - 12:18 AM
آخر تحديث 2025/12/30 - 2:25 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 95 الشهر 22210 الكلي 13006115
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير