ذاكرة الظلال .. ديمقراطية الرافدين (4)
الولاء للوطن يفرض الرؤية المجرّدة
كاظم نزار الركابي
حكمة الصامتين ونهاية الوهم
في صباح ما بعد الانتخابات، انقشع الغبار عن حقيقة قاسية ومجردة: سقط الوهم ، لكن القلعة بقيت.
خلال الأشهر الماضية، عشنا فصلاً من الضجيج المتقن. قُدّمت لنا معركة وجودية إفتراضية: رئيس وزراء منقذ (السوداني وكتلته) يرفع شعار الكرامة السياسية ، ويتوعد بإنهاء المحاصصة، في مواجهة إطار تقليدي اتُهم بـ الفساد و الشروط المذلة .
كانت السردية التي سُوّقت للجمهور، ولعواصم القرار، مغرية: ولادة أردوغان عراقي، أو سيسي جديد، وهذا ما يعني رجل دولة تبتلع قوته الأحزاب التقليدية ويفرض للدولة هيبتها .
لكن الرياضيات لا ترحم السرديات .
كان الرهان (كما تسرب من الغرف المغلقة) هو الوصول إلى العتبة الذهبية : 100 مقعد أو أكثر. لو تحقق هذا الرقم، لكان الإطار التنسيقي هرول خلف السوداني طالباً الرضا. ولكانت المعادلة انقلبت.
رقم متواتضع
الإ أن الصناديق، وتلك الهندسة التي شرحناها سابقاً، أعطت رقماً متواضعاً: 54 مقعداً (منها 15 فقط لتيار الفراتين). هذا الرقم قوض الزعامة ، لأنه شكل حجمًا تقليديًا لكتلة متوسطة، إن لم نكن صغيرة.
وهنا... سقط القناع.
تفيد التسريبات الواردة من واشنطن، ما يخشى كثيرون قوله في بغداد: الولاية الثانية صارت سراباً .
فالرجل الذي حاول أن يكون الندّ ، وجد نفسه في الموقف الأضعف. وبدلاً من أن يفرض شروطه، عاد، بسرعة قياسية، إلى أولياء نعمته في الإطار التنسيقي.
اختفت لغة التخوين ، وتبخرت وعود المعارضة ، وتلاشت الكرامة السياسية . عاد الخطاب القديم، وعادت الصور التي تجمع المتمرد بـ السادة الذين تمرد عليهم، لا كشريك قوي، بل كـ ابن ضال عاد إلى بيت الطاعة بعد مغامرة فاشلة.
اكتشف الجميع بعد فوات الأوان، أن المعركة لم تكن انقلاباً على المنظومة، بل كانت محاولة لتحسين الموقع داخلها. كانت معركة حصة وليست معركة وطن ، وهنا صدق حدس الغائبين.
حكمة الغائبين.
في الحلقة الأولى، تحدثنا عن انطفاء الصوت وعن المقاطعة. واليوم، يتضح أن الملايين الذين لزموا بيوتهم لم يكونوا يائسين بقدر ما كانوا عارفين .
إن عزوف الـ 60 بالمئة (أو أكثر) من العراقيين لم يكن فعلاً سلبياً، بل كان رفضاً بنيوياً بالغ الذكاء، إذ أدرك المواطن الصامت بحسه التاريخي ما غاب عن المتحمسين أن الجزء في ديمقراطية الظلال ، ونعني به (رئيس الوزراء) لا يمكن أن يهزم الكل (الكارتل)، فـالمسرحيات الانتخابية، مهما علا ضجيجها، تنتهي دائماً في الطابق المحصن ذاته.
رفض الصامتـــــــــــون لعب دور الـكومبارس في مسرحية صناعة الزعيم الوهمي . كانوا يعلمون أن خطاب الإسفلت (الخدمات) جيد، لكنه لا يبني دولة ، فـالقرار مرهون دائماً بـ الظل .
اليوم، يقف السوداني وكتلته في موقف لا يُحسدون عليه. بعد أن خسروا الرهان على اكتساح الصناديق، وفقدوا المصداقية أمام الذين صدقوا شعاراتهم، والأهم من ذلك، خسروا الهيبة يعد أن عادوا منكسرين أمام الكارتل.
انطفاء الصوت في صناديق الاقتراع كان الرسالة الأصدق في هذه الانتخابات.
قال الصامتون: لن نمنح شرعيتنا لمنظومة تعيد تدوير نفسها . واليوم، ومع مشهد الهرولة للعودة إلى الإطار، يثبت التاريخ أن الصامتين كانوا هم الوحيدين الذين قرأوا الخارطة بشكل صحيح.
انتهت الانتخابات، وسقطت الأقنعة. وأنبلجت حقيقة عارية: ليس في الأفق مشروع دولة قادم. لأن هذه الحقيقة كرست لـ تقاسم الغنيمة ، في دورة الإنتخابات هذه. والتي كانت وجوه الكل فيها مكشوفة تماماً.