الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التنمّر كثقافة إجتماعية.. حين يصبح الأضعف مرآة لعيوب المجتمع

بواسطة azzaman

التنمّر كثقافة إجتماعية.. حين يصبح الأضعف مرآة لعيوب المجتمع

ابراهيم البهرزي

 

لا يحتاج المرء إلى كثيرٍ من التنقيب ليكتشف أنّ التنمّر لم يكن يومًا سلوكًا فرديًا عابرًا، بل كان – في مجتمعاتنا خصوصًا نسقًا تربويًا غير مُعلَن، يُورَّث كما تُورّث الحكايات والعادات، فحين نستعيد طفولتنا، سنجد في الذاكرة مشاهد لا تُحصى:

طفلٌ يُطارد من قبل أقرانه لأنه أعرج، آخر يُنادى بلقبٍ يلازمه طوال حياته، امرأة تصبح محل هزء لأنها ضعيفة البنية او بدينة، رجل يضحكون عليه لأنه يلثغ أو يرطن في الكلام أو لديه عاهة في الحركة.

لقد تربّينا، دون وعي، على أنّ الاختلاف عيب وعاهة، وأنّ السخرية أداة ترويض، وأنّ الضحك على الآخر يثبّت مكانتنا داخل الجماعة، وهذه ليست تفاصيل صغيرة؛ بل هي مكوّنات في عمق البنية النفسية والاجتماعية التي شكّلت أجيالًا كاملة.

لم يظهر التنمّر من فراغ، فالأطفال لا يخترعون القسوة؛ بل يتعلّمونها. فحين يطلق أمامه الأب على الجار لقبًا ساخرًا، وحين تتهامس العائلة على قريبٍ يعاني مرضًا نفسيًا، وحين تصبح “الكنية” الساخرة هويةً بديلة عن الاسم الحقيقي، يتلقفها وتترسخ في ذهنه.

هكذا ينشأ الطفل في بيئة تتعامل مع السخرية كنوعٍ من الذكاء الاجتماعي، لا كعنفٍ وقسوة، ومع تكرار هذه النماذج، يتحوّل التنمر إلى عُرف، والعُرف إلى قاعدة، والقاعدة إلى سلوك مقدّس لا يُراجع.

سلطة عمودية

في معظم الثقافات التقليدية، ومنها ثقافتنا، كانت السلطة دائمًا عمودية ؛ الأب فوق الأم والرجل فوق المرأة والكبير فوق الصغير  والسليم فوق صاحب العاهة والعاقل فوق “المجنون” والعصبة فوق الفرد

وحين يكون المجتمع مبنيًا على طبقات القوة، يصبح التنمر طريقة لضبط السلوك وتأكيد التفوق.

إنه يُشبه “الضريبة النفسية” التي يدفعها الأضعف ليبقى مُعترفًا به داخل الجماعة.

وبالتالي:فان التنمر ليس مجرد سلوك؛ إنه لغة السلطة

وأخطر ما في التنمر الجماعي أنه يتحول إلى احتفال: حيث يجتمع الناس حول شخص واحد، لا ليضحكوا معه، بل ليضحكوا عليه.

 كان (منعم ) و(عبد الخالق )  شقيقان لا ب كادح ابتلته الدنيا بهما من حيث إصابتهما بالتخلف العقلي لا غير ،كانا بدينين وديعين يبتسمان فقط ولا يؤديان احدا ،يجلسان سوية ويمضيان سوية وحين رحل  والدهما تدهورت أحوالهما ولم ينصفهما اهل البلدة ، لا زلت اذكر مهرجانات الضحك التي  يقيمها الكثير من اهل البلدة بحقهما من ضرب بقشور الرقي إلى صراخ يستفزهم حتى ان الساحة بين مسجد القرية ومقاهيها كانت تتحول إلى مسرح للإضحاك عليهما وبلا رحمة .

لقد كانا مهرجانا متجولا يساهم فيه الجميع بالضحك عليهما صغارا وكبارا .

ولأن الضحك، جماعيًا، يخلق شعورًا بالتماسك والانتماء، فإن الضحية تتحول – من دون إرادة – إلى قربانٍ اجتماعي، كأن الجماعة تقول:

نحن أقوياء لأن هنالك من هو أضعف منّا”.

وهذا الضحك ليس بريئًا؛ إنه طقس هيمنة.

المجتمع الذي يخشى الاختلاف يحاول القضاء عليه، لا فهمه. والتنمر هنا يصبح وسيلة لتجنب مواجهة الأسئلة: لماذا نرفض المختلف؟ لماذا نخاف من العاهة؟ لماذا يزعجنا المجنون؟

حين يُقمع الفرد في المدرسة، وفي البيت، وفي العمل، فإنه يبحث عن مساحة يثبت فيها ذاته.

وأسهل مساحة: شخصٌ لا يستطيع الرد.

وفي غياب مؤسسات تحترم الفرد، يحاول الناس بناء مكانتهم من خلال مقارنة أنفسهم بالآخرين.

فالتنمر يصبح آلية لتعويض الشعور بالنقص.

لا زلت اذكر اننا خلال التحاقنا للخدمة العسكرية في مركز تدريب التاجي عام 1981 كان هناك خريجا قصير القامة جدا وما كان لولا قوانين الحرب ليتم سوقه للخدمة العسكرية ، هذا الإنسان شديد الحساسية جعله الضابط مرة مصدرا للسخرية والإضحاك فقد كان يضع  غطاء رأسه ( البيريه ) على الارض ويأمره بالدوران حولها بطريقة مضحكة حتى يفقد وعيه بسبب الدوران وسط ضحك الضباط ونواب الضباط ،ولم يكن تعاطفنا  نحن الجنود وحزننا معه ليوقف حالة النحيب والأنين التي تلازمه  طوال الليل .

جذور التنمر

 والحقيقة ان التنمر لم يكن حديثًا. فنحن نجد جذوره في: الأمثال الشعبية التي تربط العاهة بالسخرية. والحكايات التراثية التي تصوّر “الأحمق” و“الأعرج” و“الأعور” كمواد للضحك. وفي السير الشعبية التي تجعل المجانين مهرجين دائمين.

لقد حمل التراث صورة “الضعيف” كموضع تهكم، لا كإنسان له كرامة.

ولم يجرِ إصلاح هذه الذاكرة الثقافية عبر القرون  .

الأضعف في مجتمعاتنا هو دائمًا الكائن الذي لا صوت له، والذي يسهل تحويله إلى “نكتة «

والتنمر ليس دليل قوة، بل علامة على هشاشةٍ داخلية. فالمجتمع الذي يضحك على الضعيف هو في الحقيقة مجتمع خائف من مواجهة نفسه، خائف من جروحه، خائف من اعترافه بأن الإنسان هشّ وضعيف بطبيعته. وحين ندرك أن احترام الأضعف هو احترام للإنسان فينا، فقط عندها يمكن أن نخرج من تاريخٍ طويل كان فيه الضعيف مرآتنا المكسورة، وكنّا نحن من يكسرها كل مرة.


مشاهدات 80
الكاتب ابراهيم البهرزي
أضيف 2025/12/25 - 1:52 AM
آخر تحديث 2025/12/25 - 3:55 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 153 الشهر 18433 الكلي 13002338
الوقت الآن
الخميس 2025/12/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير