صناديق الضوء والعتمة
نشوان عزيز عمانوئيل
كولالة نوري، ذاكرة إنسانية تحمل في طياتها صبر الريف، حكمة المدن ووجع النساء اللواتي عبرن الحروب دون أن يتجاوزن أنفسهن تمامًا . تترك بصمتها الخاصة عبر تجربتها التي تنزع نحو البحث والتأمل العميق. اختيارها لترجمة عنوان مجموعتها الشعرية إلى اللغة السومرية( وهذه سابقة في الكتب المطبوعة) لم يكن خطوة تجميلية أو عارضة، بل جاء كمحاولة لإحياء اتصال نصها الشعري بجذور وادي الرافدين التي تنتمي اليها ، ليكون من بين أولى المحاولات التي تعيد الحياة للغة تشكلت في أساس حضارة ، ولكن في إطار إبداعي ومعاصر. لا ليُظهر تفوقًا شخصيا، بل ليعيد الشعر إلى سياق حواري مع أسراره الأولى، التي وُضعت في صناديق او حقائب آلهة سومر حيث خُبئت المعارف والكنوز.
قصائد كولالة نوري غالبًا تدور ضمن أجواء تجمع بين الخيال الاسطوري وتفاصيل الواقع اليومي. ليست مُعدة للإبهار السطحي، بل لصياغة أماكن وازمان داخل النفس البشرية، يلتقي فيها الهشاشة بالقوة، العتاب بالمقاومة، والفقد بالرغبة لفهم ما تبقى من التجربة الإنسانية. الشعور المركب لنقطة تتذبذب بين النور والظل .هذا الصندوق الشعري يستحضر تساؤلات جديدة تنطلق منها نحو آفاق مختلفة. لذلك يصبح الاقتراب من عالمها الشعري أكثر إلحاحًا.
لقد أرست كولالة اسمها في مسار الكتابة ببصمة عميقة لدرجة أنّ مقاطع أو نصوصًا من أعمالها قد تتحول دون وعي إلى نماذج مقلدة، وهو ما يعكس قوة أثرها في المشهد الأدبي. صوتها الشعري يذكرنا دائمًا بأن العراق لا ينجب الخراب فقط، بل ينجب لغة حية تمشي بنعومة على حافة الألم وتصنع من الكلمات حياة. بهذا العرض، لا يبدو الحوار مع نصوصها مجرد محاولة لفهم تحليلات أدبية، بل فرصة للتأمل في معاني الحياة :
1- انت أول شاعرة تختار ترجمة عنوان مجموعتكِ الشعرية إلى اللغة السومرية. ما الذي دفعكِ إلى هذا الخيار؟ وهل نظرتِ إليه كمغامرة جمالية، أم كصلة أعمق بجذور الكتابة في حضارة الرافدين؟
-"صندوق عتاب" عنوانُ قصيدةٍ في هذا الكتاب كتبتُها ونشرتُها عام 2020، وهو انعكاسٌ لروح المجموعة كلِّها. ، وكنتُ أثناء كتابتها أستحضر الصناديقَ والقيثارةَ السومرية؛كأن عتابي معتَّقً كتلك الآثار. وحينها رغبتُ في ترجمة العنوان إلى السومرية نشرت اعلانا على مواقع التواصل ، دلّتني السيدة أمل بوتر المهتمة بالاثار العراقية على المتخصّص بالسومريات الدكتور عبد الأمير الحمداني—سلامٌ لروحه النبيلة —الذي رحل عن عالمنا عام 2022، وقد قدّم ترجمةً دقيقةً للعنوان. أمّا الغلاف فصمّمه خصيصا المصمّم الإيطالي–العراقي حسين علي حربة، المعروف بابتكار حقائبَ على هيئة صناديق أو بيوت. وفي الآثار السومرية تظهر بعضُ الآلهة وهي تحمل حقائبَ أو صناديقَ يُرجَّح أنها ترمز إلى المعرفة والأسرار، ومن هنا وُلِدت فكرةُ العنوان باللغة السومرية .
2- لو كان بإمكانكِ وضع قصائدكِ داخل صندوق سومري حقيقي ودفنه تحت الأرض ليراه البشر بعد ألف سنة… أي قصيدة ستختارين؟ ولماذا؟
-أختارقصائد تحمل حتمية الصبر على الألم وحتمية الحب والفقد وعن حتمية السلام وبشاعة الصراعات التافهة . أريدها أن تُقرأ بعد كرسالة من حاضرنا إلى المستقبل بصوت صادق وواضح دون مبالغات او تزكيات .فالتاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط..فالخاسرون من الشعراء ايضا.
3- متى تشعرين أنكِ كتبتِ قصيدة حقيقية؟ عند اللحظة الأولى، أم بعد زمن حين تقرئينها بعين القارئ لا بعين الكاتبة؟
-في البدء حين تاتي تلقائية بعيدة عن التصنع اللغوي او العاطفي ..يعني بلا تكلف مضغوط في المشاعر او اللغة.وتكون حقيقية حين تاتي من تجربة على ارض الواقع وتكون عميقة حين انظر اليها وارى تلك التجربة الطويلة بايامها ولياليها وربما بشهورها او حتى سنينها قد تكومت في صفحة واحدة من الكلمات وربما اقل . وكأن غيرك قد رأك في مرأة واختصرك . ولهذا حين يسرق احدهم نصا او مقطعا ويحاول ان يكون ذكيا في كتابتها مرة ثانية فانها تكون بلا روح كانها مادة بلاستيكية معادة وليست من صوان الوجدان ومحرقة التجربة.
4- هل العتاب بالنسبة لكِ فعلُ مقاومة؟ أم وسيلة لحماية القلب؟ أم طريقة لتربية الألم؟
-العتاب عندي مزيج من كل ذلك؛ هو فعل مقاومة أمام الجرح، ووسيلة لحماية القلب من الانكسار السلبي، وطريقة لترويض الألم بدل أن يسيطر عليّ. إنه مساحة لأعبّر عن ما يثقل داخلي، بطريقة تحافظ على كرامتي ومشاعري في الوقت نفسه.
5- الصندوق في المخيلة السومرية يحمل المعرفة والأسرار ما السرّ الذي تخشين أن يفتحه القارئ في صندوقكِ؟
-أخشى أن ينظر القارئ إلى أعماق قلبي حيث تكمن الهشاشة .الصخب الذي لم يجد من يفهمه، الخيبات التي تراكمت الى غموض ، والأوجاع التي حاولتُ حمايتها بغلالة. الصندوق، في جوهره، ليس مجرد وعاء لذكريات ، بل مستودع لما يبوح للكتابة ، الطريق الوحيد لإخراجه بأمان حيث التلصص مسموح. ومع كل مرة يفتح فيها القارئ هذا الصندوق، أقدّم له فرصة ليتلمّس ضعفي وإنسانيتي واصراري ايضا ، وربما يكتشف في ثنايا كلماتي انعكاسًا لمشاعره الخاصة، فيصبح الصندوق مساحة مشتركة تتقاطع فيها تجاربنا، حيث يصبح العتاب والألم والحنين والاصرار جسورًا بيننا .
7- هل انت تعاتبين كثيرا في حياتك كانسانة؟ وتعاتبين من .؟
-عتابي عادة مكانه الورق لا الوجوه. في الواقع، لا أعاتب إلّا نادرًا، حين يفيض الألم ويصعب الاحتمال. فالفجيعة والذهول السلبي يدفعانني إلى الصمت أولًا، ثم إلى الكتابة، وكأنها المساحة الوحيدة القادرة على احتواء ما لا أستطيع قوله مباشرة.
أما الأحبة، فأفترض أن يعرفوا ما يؤذيني دون أن أضطر للبوح، لذلك يكون عتابي معهم بلا جدوى ، وربما مؤجلاً الى الابد لانني لو عاتبت ساكون قاسية جدا .
اعاتب من؟؟أعاتب الحياة حين تضيق، والحرب حين تخطف ما تحب، وأعاتب نفسي على ما قصّرت فيه أو ما فاض عنها. أعاتب الفرح لندرته، والأماكن الموحشة، والمشاعر التي تهرب في اللحظة التي نحتاجها ، وأعاتب الليل حين يعيد لي وجوهًا أحاول نسيانها. حتى الصبر أعاتبه على قبوله بالأوهام، والبحر على هديره الذي لا يستطيع مجاراة هديرالتشوش .
8 - بعض من قصائدكِ تسير على حافة الذاكرة، كأنها تمشي نحو الفقد ولا تصل. هل الذاكرة بالنسبة لك عبا ام نعمة ام ضرورة شعرية؟
-الذاكرة بالنسبة لي مزيجٌ غير قابل للفصل: نعمة وعبء وضرورة شعرية في آنٍ واحدهي نعمة لأنها تحفظ ما لا أريد له أن يضيع: الوجوه، التفاصيل الصغيرة، اللحظات التي صنعتني. وهي عبء لأن ما تحتفظ به الذاكرة لا يُمحى بسهولة، فهي لا تعيد لي فقط ما أحب، بل ما فقدت أيضًا، وما كان يمكن أن يكون ولم يكن.
9-لو كان بإمكانكِ كتابة كتاب بلا شكل أو عنوان أو قيد… كيف سيكون؟ وما الروح التي سيحملها؟
-سيكون تيارا من الوعي يُدخل الناس اليه متى ما احتاجو فرمتة للمشاعر و غربلة للافكار البالية التي تؤذي البشرية..ويكون روحها الاستمرارية دون قيد.
10- هل تشعرين أن الكتابة بصوت امرأة عراقية تُحمّلكِ مسؤولية إضافية في تمثيل تجربة النساء، أم أنكِ تكتبين بوصفكِ إنسانًا أولاً؟
-بوصفـي إنسانًا أولًا، لكنني لا أنفصل عن كونـي امرأة ، تأتي تلقائيًا ولا أحتاج لافتعالها. لا أتعامل مع الكتابة كواجب تمثيلي، لكنني أدرك أن صوتي يحمل معه أثر النساء اللواتي مررن بالوجع نفسه والدهشة نفسها. لذلك قد تكون المسؤولية موجودة، لكنها ليست عبئًا بقدر ما هي وعيٌ بأن تجربتي الفردية تتقاطع مع تجارب كثيرات كصدى.
11- وظفت الرموز السومرية منذ بدايات كتابتك فلديك نص (بلح ورصاص ) من مجموعتك الثالثة التي طبعت عام 2005 اي قبل عشرين سنة تقولين فيها :
" البلح نساء مجهولات
ورجا ل من كهنة أور وآشور وبابل.
ورثتُ من أبي الكرديّ تعاريف البلح!:
"لافتة ٌأنتِ مثل طعم البلح
عنيدة مثل النخلة..رقيقة وأليفة كالتمر-.
ومن الرصاص تعلّمت الإلحاح – وأحيانا الطيش َ"
حضورها لديك يبدو شخصيًا. ما الذي يجذبك إليها: رمزيتها، طقوسها، أم محاولتها القديمة لفهم العالم؟؟
-ما يجذبني محاولاتهم في فهم الوجود وطريقة وطقوس تلك المحاولات في تفسير الظواهر الطبيعية المدمرة ..والليل والنهار والخلود والحياة..وهذه اسئلة تظهر الوعي المبكر للانسان لكسر غموض الحياة والموت ..وما زلنا هنا مع كل التطور التكنولوجي لم نصل الى كل اجوبة.
12- تظهر الأماكن و المدن في كتاباتكِ بوصفها جزءًا من الذاكرة. هل تعتقدين أنها تُكمّل الشاعر، أم تربكه وتدفعه لإعادة تشكيل ذاته باستمرار؟
-العلاقة حركية..المدن فيها الكثير من القصص والوجوه المختلفة والاحداث ومفاجأت الشوارع ..الصخب ..اضواء المحلات ..يمكن ان تلاحظ اختلاف الطبقات في المجتمع ..كل ذلك ستجد منفذا نحو كتابة القصيدة بشكل ما. هناك ايضا فرص للتواصل مع البشرية وتحولاتهم وهذا مهم للكتابة بصورة عامة وليس فقط للقصيدة.هناك اماكن اصيلة تجعلك تبحث في التأريخ .هناك مدن تكتشف نفسك فيها /الانسان كائن معقد فيه الكثير من التداخلات.فهناك مدن تفصّل لك تلك العقد.هناك مدن تشتتك ،تريد ان تمسك هويتك فيها لكنك لا تستطيع، تصيبك بالضياع ،في هذه الحالة ايضا انت كسبان لان سوف تحاول بكل قوتك ان تتماسك فتكتشف مدى قوتك.وتكتشف توازنا لم تكن تتخيل انك تملكه.
13-. إذا عدتِ إلى أول قصيدة كتبتِها في حياتك—هل تتعرّفين على تلك الفتاة اليوم، أم تبدو لك بعيدة كقارةٍ لم تُكتشف بعد؟
-اذا عدت الى كتاباتي الاولى نعم اتعرف على تلك الفتاة اليوم ،احيانا ارى نفسي في بعض الفتيات الان ليس بالضرورة يكن كاتبات .فاتعرف على شبيهي مباشرة ولا اجهلها ،احاول ان احذرها من المطبات .لكن احيانا نبتعد عن انفسنا عمدا ايضا كي لا نتعرف عليها .
14- الحزن حاضر بقوة في نصوصكِ… هل هو محرّض للكتابة أم نتيجة لها؟ وهل يمكن للشاعر أن يكتب من منطقة الفرح بصدق؟
-الحزن والفرح هي مشاعر انسانية كلاهما محرضان للكتابة ،. لكن لماذا الحزن اكثر دافعا للكتابة ؟ لربما لاننا بالفطرة الانسانية نريد ان نتخلص من الحزن لثقله في صدورنا باسرع وقت ممكن وقد تكون الكتابة احدى طرق رؤية الحزن وتفصيلها ورقيا كوسيلة للتهدئة وصرف تلك المشاعر.بينما الفرح تريد ان تعيشها لانها اقل وفي الفرح تتحول الى طائر يصعب الامساك. بينما الحزن يتكوم عميقا وربما يبقى للابد لذلك اثر الحزن في القصيدة اكثر.
15- أنتِ تستطيعين التكلم بلغات عدّة وتترجمين بينها بين الحين والاخر . هل تغيّر اللغةُ شخصيةَ القصيدة؟ وهل يتغيّر صوتكِ مع كلّ لغة؟
-اللغة تشكّل شخصية القصيدة بلا شك، فلكلّ لغة نغمتها وإيقاعها وطريقتها في حمل المعنى. لكن صوتي يبقى ثابتًا في جوهره، وإن تغيّرت الألوان والأساليب مع كل لغة. الترجمة ليست مجرد نقل كلمات، بل إعادة ولادة للقصيدة بلغة جديدة تكشف جوانب جديدة من صوتي وإحساسي الشعري.
16- قصائد المجموعة كتبت جميعها في امريكا حيث تعيشين الان منذ سنوات، وهي ليست البلد الوحيد الذي عشت فيه خلال رحلة الحياة ،ماذا اضاف هذا المكان لروح الكتاب مقارنة بالدول والمدن المحتلفة الاخرى؟
-ربما صخبا أكثر ، في الولايت المتحدة الامريكية وكأنك في قلب العالم بخلفيته الثقافية المختلفة مثل الانجلو امريكيين و الافروامريكان واللاتينيين والاسيويين والسكان الاصليين والشرق اوسطيين .. الخ .هي اضافة أخرى لي كشخص وككاتبة رغم تنقلي بين بلدان أخرى سابقا وتشربي من تلك الثقافات المتنوعة . اضاف لي عمقا أكثر في الكتابة و الوعي .والمواضيع اصبحت اكثر حيوية .واستغرب من بعض الكتاب العرب حين يسكنون امريكا ويقولون لم نعد نستطيع الكتابة او ان الجو غير محفز.بل اعتقد البيئة الامريكية بيئة محفزة جدا للابداع.
17- إذن بعد ان استطعت ان تواجهي بعتابك الورقي..هل ستهدأين قليلا؟ اوهل تهبي نفسك خلوة زمنية بعيدا من فتح الصندوق؟
- ربما يهدأ قلقي قليلًا بعد أن أفرغتُ ما امتلأ به الصندوق من عتاب، لكنني لا أظن أنّه سيغلق تمامًا. فالحياة لا تكفّ عن إضافة أوراق جديدة إلى الصندوق، والمشاعر لا تتوقف عن الحركة. ألتقط أنفاسي، لكنني أعرف أنّني سأعود إليه حين يشتدّ عليّ الصمت ويحتاج قلبي إلى مساحة أخرى..
وماهو جدير بالذكر ان الكتاب طبع عن دار الشؤون الثقافية في ربيع 2025 وتحتوي المجموعة على 97 قصيدة في 103 صفحات .
من قصائد المجموعة :
لا زهور على عتبة بيتي
يقع بيتي في ركن تقاطع طرق
مثل الركن الأخير لعمري
صغير ومتشعب.
أترك الباب مفتوحاً غالباً
فلا جواهر أخاف عليها
وعلى العتبة لا أضع الأصيص
الزهور ليست لي
إنها للنساء المهندسات لخطوط الزواج
وطول علاقاتهنّ السريّة.
إنها ليست لي
الزهور قلق هادئ
تفكير دقيق حول الماء
وأنا محيطات دمعٍ في الجهات كلها
زهور العتبات رقيقات ومغنجات
وأنا غابة من تحديقٍ حادٍ لا أنعس
وأتعشى شهاباً من أرواح أصدقاءٍ موتى.
الزهور ليست لي
لقد ثُكلتُ مرات وهم يقطفونها مني
تارةً من أجل جنود يغادرون
وأخرى لِجنود عائدين في تابوت.
زهوري هناك يتيمة من ضوء
وأنا يتيمة هنا في بيت على تقاطع طرق.
للشاعرة خمسة مجاميع شعرية سابقة :لحظة ينام الدولفين.لن يخصك هذه الضجيج.تقاويم الوحشة.حطب .قبعات مكسورة.وكتبت مجموعة قصص ادبية .وكتبت مجموعة مقالات في الشان السوسيولوجي .وعملت مقدمة برامج تلفزيونية وفي الترجمة والتدريس .