الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
يمين الشهود..  الثغرة الصامتة في منظومة العدالة العراقية

بواسطة azzaman

يمين الشهود..  الثغرة الصامتة في منظومة العدالة العراقية

إسماعيل محمود محمد العيسى

 

في بلد أثقلت المحاكم كاهله بملفات الإرهاب والجرائم والفساد والنزاعات، تبقى الحقيقة هي الخيط الأخير الذي يمسك به القضاء ليعيد للناس حقوقهم، لكن الحقيقة لا تأتي إلا من شاهد يعرف معنى القسم، ويُدرك أن الله فوقه والقانون من ورائه؛ ولذلك تبدو الحاجة ملحّة اليوم لإعادة النظر في اليمين القضائي قبل أن نطالب الشاهد بقول الحقيقة، ففي قاعات المحاكم العراقية، حيث تُصاغ المصائر وتُحسم النزاعات وتُستعاد الحقوق، يقف الشاهد قبل أن يدلي بأقواله، فيرفع يده ويقول: «أقسم بالله أن أشهد بالصدق كله ولا أقول إلا الحق والله». صيغة مألوفة تكررت لعقود طويلة، لكنها — رغم رمزيتها — ليست بالقوة الكافية التي تجعل الشاهد يقف أمام مسؤولية كلمته، وهنا يبرز السؤال الذي ينبغي أن يُطرح بجرأة: هل يمين الشهود في القضاء العراقي يؤدي الغاية التي شُرع من أجلها، أم تحوّل إلى طقس صوتي لا يحمل الردع اللازم لمن يريد كتمان الحقيقة أو تحريفها؟

القسم في أي نظام قضائي هو بوابة الحقيقة التي يدخل منها الشاهد إلى صميم العدالة، لكنه حين يتحول إلى موروث لفظي لا يوضح تبعات الكذب ولا يذكّر بالعقوبة ولا يحدد نطاق الالتزام، يفقد وظيفته الأساسية ويتحوّل إلى إجراء شكلي لا يترك أثرًا في ضمير من يؤديه، الشاهد العراقي يقسم بالله، لكنه لا يسمع في نص القسم أن كتمان الحق جريمة، وأن تحريف الوقائع جريمة، وأن اليمين الكاذب جريمة، وهذه الفجوة تجعل بعض الشهود يرددون القسم كجزء من المشهد، ثم يقولون ما يريدون ويحذفون ما يشاؤون، تاركين للقاضي مهمة فرز الروايات والبحث بين أنقاض الحقائق.

ولا شكّ أن القضاء العراقي مؤسسة عريقة لا يليق بمقامها أن تبقى صيغة القسم فيها مختصرة لا تبرز نطاق الالتزام ولا تبعاته القانونية ولا المسؤولية التي يتحملها الشاهد في اللحظة التي يرفع فيها يده، وقد سبقت دول كثيرة — مثل فرنسا ومصر والأردن ولبنان — إلى تحديث صيغة القسم لتضمينها تحذيرًا صريحًا من العقوبة، وجعلها جزءًا من الردع القانوني لا مجرد بداية شكلية للإدلاء بالشهادة.

مستقبل انسان

وليس من المبالغة القول إن مصير أسرة كاملة أو تاجر أو سجين أو امرأة أو طفل قد يرتبط بالجملة التي ينطقها الشاهد بعد رفع يده، وإن دقيقة واحدة قد تغيّر مستقبل إنسان أو تهدم بيتًا أو تحفظ حقًا. كم من قضايا تغيّرت نتائجها بسبب شاهد قال نصف الحقيقة فقط، وكم من حقوق ضاعت لأن الصيغة الحالية للقسم لم تُشعر الشاهد بأنه يقف على حافة جريمة إذا كتم أو حرّف أو غيّر، ولو أن اليمين حملت وزنها القانوني الحقيقي، لربما اختلفت نتائج الكثير من القضايا.

ومن أجل عدالة أشد إحكامًا، أرى أن القضاء العراقي يحتاج اليوم إلى صيغة يمين واضحة تُقرأ على الشاهد وتجمع بين الالتزام الديني والقانوني، وتغلق الباب أمام شهادات الزور ونصف الحقيقة، مثل: «أقسم بالله العظيم أن أقول الحق كاملًا، وألا أكتم شهادة، وألا أغيّر أو أحرّف أو أحذف شيئًا من الحقيقة، وأن أدرك أن الإدلاء بشهادة غير صحيحة أو كتمان وقائع جريمة يعاقب عليها القانون»، أو بصيغتها المختصرة: «أقسم بالله أن أقول الحقيقة كاملة، دون كتمان أو تحريف، وأدرك أن مخالفة هذا القسم تُعد جريمة يعاقب عليها القانون»، فهذه ليست جملًا إضافية، بل درع حماية للعدالة ورسالة واضحة بأن الشهادة ليست مجالًا للمجاملة ولا ساحة للتلاعب بالألفاظ.

إن مسؤولية تحديث صيغة القسم ليست إجراءً شكليًا، بل ركنًا من أركان إصلاح المنظومة القضائية، وخطوة حاسمة للحدّ من شهادات الزور وتقليل الطعون وتخفيف العبء عن المحاكم. فالقضاء الذي يصلح صيغة اليمين هو القضاء الذي يعيد الهيبة للحقيقة ويحمي الدولة من الظلم الذي قد يمرّ عبر كلمة واحدة.

ثغرة صامته

وليست المشكلة في القضاء، ولا في القانون، ولا في القضاة؛ بل في الثغرة الصامتة التي تسللت إلى صميم أهم إجراء في المحاكمة: القسم. لقد حان الوقت لأن ينتقل القسم من جملة تتردد إلى مسؤولية تُفهم وتُهاب، فلا دولة تقوم بلا عدالة، ولا عدالة تقوم بلا حقيقة، ولا حقيقة تُستعاد من شاهد لا يعرف وزن كلمته وهو يقسم بالله.

 

 


مشاهدات 37
الكاتب إسماعيل محمود محمد العيسى
أضيف 2025/12/01 - 5:45 PM
آخر تحديث 2025/12/02 - 1:30 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 62 الشهر 850 الكلي 12784755
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير