الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التحويل الابستمولوجي واعادة انتاج المعنى: ارتحالا المصطلح انموذجا

بواسطة azzaman

التحويل الابستمولوجي واعادة انتاج المعنى: ارتحالا المصطلح انموذجا

عادل الثامري

 

مقدمة

تشكّل ارتحالات المصطلحات النقدية والأدبية عبر الحدود اللغوية والثقافية ظاهرة معرفية بالغة التعقيد، تتجاوز مجرد النقل الترجمي المباشر لتصبح عملية تحويل ابستمولوجي  تُعيد إنتاج المعنى وتشكّل شبكات دلالية جديدة. فالمصطلح المهاجر لا يُنقل كوحدة معجمية ثابتة، بل يخضع لما يمكن تسميته "التأقلم المفاهيمي" ، حيث يتفاعل مع الإطار المعرفي (episteme) للثقافة المُستقبِلة، ويكتسب أبعادًا دلالية جديدة ويطور حمولات سياقية  لم تكن متاحة في منشئه الأصلي.

تكمن أهمية دراسة هذه الظاهرة في كشفها عن الدينامية الحوارية  التي تحكم إنتاج المعرفة النقدية، وتفكيك الوهم القائل بثبات المصطلحات وشفافيتها، فهي تؤكد أن كل عملية نقل مفاهيمي هي في جوهرها إعادة كتابة  للمفهوم ذاته، وفق ما تقتضيه الأنساق المعرفية المحلية  والأفق النظري السائد.

 التحولات الدلالية: رحلة الشكلانية

تُعد الشكلانية الروسية  نموذجًا مثاليًا لفهم التعددية الترجمية  وأثرها في إعادة تشكيل المفاهيم. فعندما انتقلت نظريات الشكلانيين إلى الغرب،  خاصة في ستينيات القرن العشرين، شهد مصطلح "priem" الروسي—الذي يعني في أصله "الإجراء" أو "التقنية" الأدبية—تحولات ترجمية متعددة وكاشفة: فقد تُرجم إلى الفرنسية بـ "procédé"، وإلى الإنكليزية بـ "device" أو "strategy"، وإلى الألمانية بـ"  "Kunstgriff. هذا التنوع اللغوي لا يعكس مجرد اختلافات معجمية، بل يكشف عن صراع تأويلي خفي لإدماج المفهوم داخل الأنظمة المعرفية الغربية .

وفي الوقت الذ سعى فيه رومان ياكوبسون، في محاولته لترسيخ الشكلانية كمنهج علمي، إلى وصف  "priem" بأنه "العامل الفاعل في الدراسات الأدبية العقلانية"، مُشددًا على البعد الإجرائي  للأدب، نجد أن فيكتور شكلوفسكي ذهب أبعد من ذلك، وأعلن في تصريح شهير أن "العمل الفني هو مجموع تقنياته الأدبية". أسس هذا التصريح لـ "النزعة التقنوية" في النقد الأدبي، والتي أزاحت المحتوى الأيديولوجي والسياقات الاجتماعية، مؤقتًا، من دائرة الاهتمام النقدي المباشر.

ولم يكن "priem" هو المصطلح الوحيد في هذه الرحلة. فالتمييز الشهير بين "siuzhet" (الحبكة/البناء الفني للأحداث) و "fabula" (القصة/التسلسل الزمني الطبيعي) قد أسهم بشكل كبير في تطوير السرديات البنيوية لاحقًا. كما أن مفاهيم مثل "smena sistem" (تغيير الأنظمة) ليوري تينيانوف، الذي يفسر التطور الأدبي بوصفه صراعًا ديالكتيكيًا بين الأشكال المهيمنة والهامشية، لم تُنقل ببساطة، بل خضعت لـ "الاستيعاب النظري"، حيث تفاعلت مع التقاليد النقدية الغربية—من النقد الجديد  إلى البنيوية الفرنسيةوانتجت هجينًا مفاهيميًا يحمل بصمات كلا السياقين :الروسي والغربي.

من الجمالي إلى السياسي

يُشكّل مفهوم الاغتراب أو الإغراب حالة نموذجية للهجرة المفاهيمية المُعقدة، التي تنقّل فيها لمصطلح بين الفضاءين الروسي والألماني في رحلة جدلية غير خطية. في السياق الشكلاني ، صاغ فيكتور شكلوفسكي مصطلح "ostranenie" (التغريب/الإغراب) في مقالته الشهيرة "الفن كإجراء" (1917)، مُشيرًا إلى تلك التقنية الأدبية  التي تُخرج الموضوع المألوف من دائرة الآلية الإدراكية، لتُعيد إليه نضارته الحسية  وتُطيل زمن الإدراك الجمالي. كان هدف ostranenie عند شكلوفسكي جماليًا خالصًاأي تجديد التجربة الحسية بالواقع والأشياء من خلال تغريب الأشكال المألوفة وتعقيد الشكل، بما يُقاوم التآكل الإدراكي  الناتج عن التكرار والاعتياد.

 لكن هذا المفهوم الشكلاني، عندما عبر إلى ألمانيا وتبنّاه برتولت بريخت تحت اسم "Verfremdungseffekt" (تأثير التغريب/التباعد)، اكتسب بُعدًا سياسيًا-تربويًا  مُغايرًا تمامًا. لم يعد بريخت مهتمًا بـالتجديد الجمالي بقدر اهتمامه بـتحفيز الوعي النقدي  عند الجمهور. فاصبح Verfremdung عنده أداة لـكسر الإيهام المسرحي  وتعطيل التعاطف الانفعالي الآلي، بما يُتيح للمتفرج مسافة تأملية  تُمكّنه من إدراك البنى الاجتماعية المُتخفية  ونقد الأيديولوجيا السائدة . هكذا تحوّل المصطلح من أداة شعرية  إلى استراتيجية سياسية في واحدة من أبرز تحولات الوظيفة المفاهيمية في تاريخ النظرية المسرحية.

واللافت أن شكلوفسكي نفسه، في مراجعاته اللاحقة خلال ثلاثينيات القرن العشرين، أضاف مصطلحات مُكمّلة لـ "ostranenie"، مثل "Udivlenie" (الدهشة) و "Otodvinutost" (الانفصال)، في حركة قد تعكس بدايات استيعابه لبعض التطورات الغربية لمفهومه. هذه الدينامية الدائرية او التغذية الراجعة  تُظهر أن المفاهيم لا تهاجر في اتجاه واحد ، بل تعود أحيانًا إلى منبعها الأصلي مُحمّلة بـطبقات دلالية جديدة  تُعيد تشكيل فهم مُبدعيها الأصليين لها.

باختين في الغرب

يُمثّل ارتحال مفاهيم باختين إلى الغرب، ولا سيما عبر وساطة جوليا كريستيفا في أواخر الستينيات، واحدة من أكثر التحولات المعرفية إثارة في تاريخ النظرية الأدبية المعاصرة. فحين قدّمت كريستيفا ميخائيل باختين إلى القارئ الفرنسي، لم تقم بمجرد ترجمة أو تلخيص لأفكاره، بل انخرطت في قراءة إنتاجية أعادت من خلالها صياغة المفاهيم الباختينية ضمن أفق ما بعد البنيوية الفرنسية، حيث تتجاور اللسانيات البنيوية مع التحليل النفسي اللاكاني والتفكيكية الدريدية.

لقد كانت "الحوارية" (Dialogism) عند باختين – وهي الفكرة القائلة إن كل خطاب هو مجال لتفاعل أصوات متعددة، وإن كل ملفوظ يحمل صدى ملفوظات سابقة وينتظر استجابات لاحقة – هي البوابة الرئيسية التي عبرت منها أفكاره. غير أن كريستيفا لم تكتفِ بتبنّي الحوارية، بل أعادت تأويلها في ضوء تصورات دريدا عن "الاختلاف" (Différance) ولاكان عن "الذات المنقسمة" (Split Subject)، لتشتق من هذا التفاعل النظري الخلاق مفهومًا جديدًا لم يستخدمه باختين نفسه قط، هو التناص   (Intertextuality) ، وبهذا التحويل المفهومي الجذري، تحوّلت الحوارية من مبدأ تداولي-لغوي يصف دينامية الخطاب إلى آلية معرفية شاملة تُعيد تحديد علاقة النص بغيره من النصوص، والنص بالقارئ، والنص بالثقافة بأكملها.

ولم يكن التناص هو المحطة الوحيدة. فمفهوم باختين عن "vnenakhodimost'"  - الذي يعني ضرورة وجود مسافة خارجية للفهم، فالفهم، في تصور باختين، لا يتحقق من داخل التجربة بل من خارجها؛ فكل إدراك للآخر مشروط بموقع خارجي يُتيح رؤية ما لا يُرى من الداخل – قد ترجم بتباينات دلالية: ففي الفرنسية، جاءت   exotopie الإكزوتوبيا  لتؤكد البُعد المكاني الخارجي  ، و "outsideness" في الإنكليزية (مشيرة إلى الانفصال الوجودي عن موضوع الفهم)، أما في الألمانية، فظهرت بصيغة Außerhalbbefindlichkeit ذات النكهة الهايدغرية، التي تُحيل إلى "الكينونة-هناك"، أي وجود الذات في حالة من الانفصال الوجودي الضروري للفهم. كشفت كل ترجمة عن كيفية تفاعل المفهوم مع التقاليد الفلسفية السائدة في كل لغة.

في دراسته عن رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى، صاغ باختين مفهوم الاحتفالية  او الكرنفالية Karnaval ليصف الفضاء الرمزي الذي تُقلب فيه التراتبيات الاجتماعية واو يُعلّق فيه النظام الرمزي مؤقتًا. في هذا الفضاء، يتبدّل العالي بالمنخفض، والمقدّس بالدنيوي، ويُستبدل منطق السلطة بمنطق الجسد والضحك.  وقد شكّل هذا المفهوم أحد أبرز أدوات القراءة الثقافية في الغرب، لكنه أثار جدلاً واسعًا. فبينما رأى فيه بوريس غرويس تمثيلاً أيديولوجيًا يُسوّغ العنف الثوري والاضطراب الاجتماعي، قرأه مايكل هولكويست بوصفه احتفاءً بالتعدد والتحرر من الخوف والهيمنة.

هنا تتجلى مرة أخرى الترجمة الأيديولوجية للمفاهيم: فارتحال المصطلح لا يتوقف عند النقل اللغوي، بل تتضمن انتقاله عبر أنظمة فكرية وسياقات تاريخية تعيد تأويله وفق انحيازاتها الخاصة. فالكرنفالية في الثقافة السوفييتية كانت طاقةً شعبية مضادة للسلطة، أما في الثقافة الغربية فقد تحوّلت إلى مفهوم نقدي يُعيد التفكير في علاقة الأدب بالسلطة والخطاب والجسد.

إن ما حدث مع مفاهيم باختين ليس مجرد انتقالٍ من لغةٍ إلى أخرى، بل تحوّل إبستمولوجي أعاد رسم خريطة العلاقة بين اللغة، والمعنى، والذات، والآخر. لقد تحوّل باختين، عبر وساطة كريستيفا وما بعد البنيوية الفرنسية، من ناقدٍ للخطاب الروائي إلى منظّر للخطاب الثقافي المتعدد، وأصبحت أفكاره تشكّل جذرًا خفيًا لكثير من المفاهيم المعاصرة مثل التعدد الصوتي، والاختلاف النصي، والهوية الحوارية.  إنها رحلة تُظهر كيف يمكن للفكر أن يُعاد خلقه عندما ينزح او يرتحل—فالارتحال هنا ليس فقدانًا للأصل، بل ولادة ثانية للمعنى في فضاءٍ جديد.

التناص: تشعب المفهوم وتأطيره

شكّل مفهوم "التناص" (Intertextuality)، الذي وُلد من رحم الحوارية الباختينية عبر وساطة كريستيفا، حقلًا نظريًا خصبًا شهد تشعبًا وتأطيرًا ملحوظين. وقد لعبت دراسات فرديناند دي سوسير غير المنشورة حول "الجناس المخفي" (Anagram) أو "الهيبوغرام" (Hypogram) – وهو نص خفي( او كلمة سرية )مُبعثر داخل النص الظاهر – دورًا محوريًا، وإن كان غير مُعلن، في تطوير فكرة البنية النصية المزدوجة. هذا المفهوم—الذي ظل حبيسًا في دفاتر سوسير حتى نشرها جان ستاروبينسكي في الستينيات—فتح آفاقًا جديدة لفهم البنية المزدوجة للنص ، حيث يحمل كل نص ظاهر نصوصًا خفية تتطلب قراءة حفرية لاستخراجها. استلهمت كريستيفا من هذا المفهوم وطوّرت منه مصطلح "البراغرام" (Paragram)، الذي يُشير إلى عمل العلامة اللغوية في سلسلتين دلاليتين متزامنتين: سلسلة الخطاب النحوي التواصلية، وسلسلة الشعرية التناصية.

في المقابل، وفي استقلال نسبي، ظهر في السياق الروسي مفهوم "podtekst" (النص التحتي / Subtext) ضمن مدرسة تارتو-موسكو السيميائية بقيادة يوري لوتمان. هذا المفهوم، الذي استُخدم بكثافة في تحليل نصوص التيار الأكميي (Acmeism) مثل أعمال آنا أخماتوفا وأوسيب ماندلشتام، كان يركز على القصدية التشفيرية - أي أن الكاتب يُخفي معاني مُحددة تتطلب فك شفرة من قارئ عارف – على عكس التناص الغربي الذي أُسّس على "اللاقصدية" وتشتت المعنى  كما عند رولان بارت وجاك دريدا.

لاحقًا، سعى منظّرون مثل جيرار جينيت إلى تأطير هذا الحقل المعقد عبر تطوير نظام تصنيفي شامل في كتابه  أطراس   (1982)، حيث ميّز بين خمسة أنماط للعلاقات عبر-النصية (Transtextuality)، منها: "التناص المحض" (الاقتباس والتضمين)، و "المناص" (Paratext) وهو العتبات النصية مثل العناوين والمقدمات، و "النص الأصل" (Hypotext) و "النص المتفرع" (Hypertext) في علاقات التحويل. هذا الجهد النظامي يعكس التوتر المعرفي الدائم بين النزعة البنيوية الكلاسيكية بميلها إلى التصنيف والضبط المنهجي، والنزعة ما بعد بنيوية بتأكيدها على  التعددية الدلالية وعدم الاستقرار المفاهيمي.

خاتمة

تكشف ارتحالات او نزوح المصطلحات النقدية عبر الحدود اللغوية والثقافية عن حقيقة جوهرية: ان المعرفة النقدية لا تُنتج في عزلة أحادية، بل تتشكل عبر حوار دينامي مستمر بين الذات والآخر، بين المركز والهامش، بين الماضي والحاضر. إن "اللاتطابق" بين المصطلح الأصلي والمترجم ليس نقصًا ينبغي تجنبه، بل هو فضاء للإنتاجية المعرفية، يُتيح توليد معانٍ جديدة ويكشف عن إمكانات كامنة في المفهوم ذاته. يمكن النظر إلى المصطلح المهاجر بوصفه كيانًا حيًا يخضع لدورة حياة كاملة: ينشأ في سياق محدد، ثم يرتحل ويتحور ويتكيف مع البيئات الجديدة، ليُولّد شبكات مفاهيمية جديدة وأشكالًا هجينة تُثري الخطاب النقدي. والتعددية الدلالية الناتجة عن هذه الهجرة ليست فوضى، بل قيمة معرفية تُتيح مرونة تحليلية وتقاوم الدوغمائية والأحادية المنهجية.

في عصرنا الراهن، حيث تتعاظم التفاعلات عبر-الثقافية، أصبحت النظرية النقدية فضاءً حواريًا عالميًا تتلاقى فيه تقاليد نقدية متعددة. إن فهم ميكانيزمات هذا الارتحال يفتح آفاقًا لنقد أكثر وعيًا بشروطه المعرفية، وأكثر انفتاحًا على التعددية، وأكثر قدرة على توليد معانٍ جديدة. يُذكّرنا ارتحال المفاهيم بأن المعنى ليس معطىً ثابتًا، بل حدث حواري يتجدد مع كل قراءة ومع كل ترجمة ومع كل سياق جديد. والفكر النقدي الحي هو ذاك الذي يقبل حالة "الارتحال الدائم"، رافضًا الاستقرار الوهمي في معانٍ نهائية، مُتبنيًا بدلاً من ذلك الحركة والتحول والانفتاح كمبادئ وجودية للمعرفة في عالم متعدد الأصوات، لا يكفّ عن إعادة كتابة نفسه.

 


مشاهدات 98
الكاتب عادل الثامري
أضيف 2025/11/17 - 2:51 AM
آخر تحديث 2025/11/17 - 6:50 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 222 الشهر 11983 الكلي 12573486
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير