الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
محمد مبارك: رؤية فلسفية في النقد الأدبي العربي الحديث


محمد مبارك: رؤية فلسفية في النقد الأدبي العربي الحديث

محمد علي محيي الدين

 

في سماء النقد الأدبي العربي، يسطع نجم محمد مبارك بوصفه واحدًا من أبرز الأصوات التي حفرت لها أثرًا لا يُمحى في ذاكرة الثقافة المعاصرة. كان ناقدًا فذًا، متسلحًا بمنهجٍ رصين، ووعيٍ عميقٍ بالأدب، استطاع من خلاله أن يجمع بين أصالة التراث وحيوية الحداثة، مقدّمًا قراءات متأنية وابتكارية للنصوص الأدبية، جعلت من اسمه عَلَمًا على سعة الرؤية وتنوع المنهج.

ولد محمد مهدي مبارك عام 1939 في مدينة الحلة بمحافظة بابل، في بيئة ثقافية غنية غذّت شغفه المبكر بالأدب والشعر. وما أن أنهى دراسته الأساسية والثانوية في العراق حتى اتّجه إلى جامعة بغداد، حيث حصل على البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، ثم نال لاحقًا شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي، وهو ما أتاح له أن ينهل من معين الثقافتين العربية والغربية في آنٍ معًا.

امتدت اهتماماته لتشمل الإعلام والسينما والمسرح، إذ تقلّد عدة مناصب إعلامية، وشُهد له بالخبرة في مجالات الثقافة العراقية. وكان اختياره النقد الشعري وليد انسجام داخلي عميق؛ فقد وجد فيه مساحة تعبير أقرب إلى ذاته، بحسب ما يراه متابعوه.

بدأ مبارك مسيرته النقدية عام 1960، فكتب في قضايا الشعر وعلم الجمال، وتوغّل في ميدان الفلسفة، لا سيما الفلسفة العربية والإسلامية، مشاركًا في تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عام 1959، وناشطًا في المؤتمرات الأدبية على صعيد الوطن العربي. تنقّل بين مواقع وظيفية مؤثرة، فترأس فرع المسرح، وعمل محررًا في صحيفة الزمان الأردنية قبل عام 2003، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الأقلام بعد التغيير، وأسهم في إذاعة وتلفزيون العراق ببرامج ومساهمات ثقافية بارزة.

ترك محمد مبارك خلفه نتاجًا فكريًا غنيًا، من أبرز مؤلفاته: الكندي فيلسوف العقل، كتاب الجماهير، العدد السادس، 1966. مواقف في اللغة والأدب والفكر، دار بيروت، 1974، طُبع أيضًا في دار الفارابي بيروت ومكتبة النهضة ببغداد. دراسات نقدية في النظرية والتطبيق، منشورات وزارة الإعلام، الجمهورية العراقية. نظرات في الفكر العربي–الإسلامي الوسيط، 1986. الوعي الشعري ومسار حركة المجتمعات العربية المعاصرة، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2004. مقاربات في العقل والثقافة، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2004. مقالات في الفلسفة العربية الإسلامية، وزارة الثقافة، العراق، ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية، 2013. محاولة في فهم شخصية الفرد العراقي، دار ميزوبوتاميا، بغداد، الطبعة الثانية، 2010.

كما كتب ثلاث مسرحيات: الإنسان والقضية، الشاعر والصعلوك، الاختيار الصعب، وفيها جسّد رؤاه الفكرية ضمن نصوص درامية ذات طابع فلسفي وإنساني.

لم يكن مبارك ناقدًا فحسب، بل موسوعيّ المعرفة، غاص في أعماق الأدب، والفكر، والتاريخ، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة القديمة والحديثة، وعلم النفس، وقد وظّف كل ذلك في مشروعه الثقافي، فكان التاريخ يحضر في مسرحه، والفلسفة في نقده، والفكر التقدمي في مجمل أعماله. وقد اختار في أواخر أيامه أن يغوص أكثر في القضايا الفلسفية، ملتزمًا بمبادئه الفكرية، ومُعبّرًا عنها بأسلوبه المميز.

تميّز أسلوب محمد مبارك النقدي بجمعه بين العمق والوضوح، فكانت كتاباته تُقرأ بذات الشغف من قِبل القارئ العادي والمتخصص معًا. آمن بأن النقد ليس فعلاً أكاديميًا جافًا، بل حوارًا حيًّا مع النصوص والمجتمعات، يجسّد ما يختلج في وجدان الأمة من قضايا وهموم.

في منهجه، كان يمزج بين التراث النقدي العربي والمناهج الغربية الحديثة، مستلهمًا من البنيوية، والتاريخية، والنفسية، ليقدّم تأويلات جديدة للنصوص العربية. وكان يرى أن التراث الأدبي العربي لا يُفهم إلا باستحضار السياق الاجتماعي والثقافي الذي أنتجه، لذلك كان اهتمامه ينصب على كشف الأبعاد الإنسانية والفكرية الكامنة خلف النص.

سعى مبارك إلى تجديد النظرة للأدب العربي القديم، فجاوز التلقين والحفظ، واتجه إلى كشف جماليات الشعر العربي بلغة تحليلية معاصرة، عارضًا أساليبه التعبيرية، ومصورًا فنياته بدقة، فكان من أبرز من درس العلاقة بين الأدب والمجتمع، مبرزًا دور الكاتب في التعبير عن تطلعات الناس وآلامهم.

ولعل أحد أبرز إنجازاته أنه ساهم في إدخال المناهج النقدية الغربية إلى السياق العربي، ولكن من دون نسخٍ أعمى، بل مع تكييف ذكي يراعي خصوصية الثقافة العربية. فالنقد عنده أداة لاختراق النص وتفكيكه، لا مجرد زينة أكاديمية.

ترك محمد مبارك أثرًا بالغًا في الحياة الثقافية العراقية والعربية، إذ شكّلت كتبه ومقالاته مرجعًا لا غنى عنه للدارسين والنقاد، وأسهمت في تشكيل وعي نقدي جديد أكثر انفتاحًا وجرأة. وكان قلمًا فاعلًا في الصحافة الثقافية، يناقش قضايا الأدب والمجتمع في آن، مؤمنًا بدور الكلمة في تهذيب الذائقة وبناء الإنسان.

رحل محمد مبارك عام 2007، لكنه خلّف وراءه ميراثًا فكريًا زاهرًا، ما زال حيًّا في مكتبات الباحثين وضمائر القرّاء، وما زالت رؤاه النقدية تنبض في أعمال من تتلمذوا على خطاه أو اقتفوا أثره في دروب الأدب والنقد.

ولم يكن حضوره عابرًا في المشهد الثقافي العراقي والعربي، بل كان حضورًا تأسيسيًا ترك أثره العميق في الأجيال التي تلته. فقد فتح أمام الدارسين والنقاد آفاقًا جديدة للتفكير في النص الأدبي بوصفه كائنًا حيًّا متحركًا في الزمن، لا مجرد بناء لغوي جامد. وبهذا الوعي، علّم طلابه ومتابعيه أن النقد ليس بحثًا في الجماليات فحسب، بل فعلُ تفكيرٍ في معنى الوجود الإنساني كما يتجلى في الأدب والفكر والفن.

كان مبارك ينظر إلى الناقد على أنه فيلسوف النص، يقرأ العالم من خلال اللغة، ويستكشف جوهر الإنسان عبر الشعر والفكر. ومن هنا، امتد أثره إلى جيلٍ من النقاد والمفكرين الذين وجدوا في مشروعه النقدي نموذجًا للتوازن بين العقل والوجدان، بين الفلسفة والإبداع.

واليوم، بعد رحيله، لا تزال أعماله تُقرأ بعين التقدير والإعجاب، بوصفها نصوصًا تحمل طاقة فكرية متجددة، قادرة على محاورة القارئ المعاصر. لقد رحل الجسد، وبقي الفكر حيًّا، يذكّرنا بأن الثقافة لا تزدهر إلا بالعقول التي تؤمن بالحوار، وبالقلوب التي تُنصت لجمال الكلمة وصدقها.


مشاهدات 75
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/11/11 - 11:36 PM
آخر تحديث 2025/11/12 - 3:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 117 الشهر 8154 الكلي 12569657
الوقت الآن
الأربعاء 2025/11/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير