أرسم نخلة .. ولا ترسم واقعنا

أحمد جاسم الزبيدي

 

كان معلمنا حكمت، رحمه الله، أقرب إلى مايسترو منه إلى مدرس ابتدائية. يدخل الصف بعصاه كأنها عصا القيادة في فرقة موسيقية، ونحن صغار نردد خلفه بحماسة وكأننا في مهرجان للعلوم الحديثة:

«ما يجوز شرب الحار، والارد يطلع دم من اللثة !»

نشيد وطني من نوع آخر، لا يُذاع في الإذاعة لكنه محفور في الذاكرة مثل أغنية طفولية لم تبهت.

ثم يأتي درس الرسم، فيقول بثقة الزعيم الذي لا يُردّ له أمر:

«ارسم نخلة !»

فنرسمها ونحن نحلم بالتمر، لا بالكراسي البرلمانية. جذعها مستقيم كالأخلاق القديمة، وسعفها مفتوح كقلوب الناس أيام زمان.

وفي الامتحان النهائي، يرتقي بالأسئلة إلى مستوى الفلسفة ويقول:

«ارسم نخلة ذات عثقين !»

كانت معضلة رياضية أكثر منها فنية، لكننا كنا نؤمن أن في الحياة نخلتين فقط: نخلة الوطن، ونخلة الحلم.

وفي أحد الأيام جاءنا المعلم محذّرًا بنبرة الأب:

يا أولادي، لا تقتربوا من أعمدة الكهرباء! التيار العالي موت محتم، حتى الغنمة تموت إن لمستها !» «

كنا نرتجف خوفًا من سلك عارٍ، واليوم تمرّ أمامنا أسلاك الفساد المكشوفة، والكل يصفّق لها بحماس.

لم نعد نخاف من التيار الكهربائي، بل من التيار الحزبي، فهو يقتل بلا صوت، ويصعق بلا دخان.

كنا نرسم النخلة بعشق، واليوم يرسمون لنا مشاريع ووعودًا و»رؤى مستقبلية» كلها بلا جذور .

كنا نؤمن أن النخلة تعطي الظل والثمر، أما اليوم فالنخيل صار ديكورًا في مؤتمرات الاستثمار، يزرعونه في القاعة ويقطعونه عند المغادرة.

رحمك الله يا معلم حكمت... علمتنا أن النخلة رمز الكرامة، أما اليوم فقد صار بعضهم يرسم الوطن نفسه كجذع مقطوع بلا عثق ولا ظل.