طوابير العمر

حسين شكران الأكوش العقيلي

حين يقف المتقاعد أمام أبواب دائرة التقاعد، لا يقف بجسده فقط، بل يحمل معه تاريخًا طويلًا من الخدمة، وذاكرة مثقلة بسنوات العطاء. ومع ذلك، يجد نفسه في مواجهة طوابير لا تنتهي، ومعاملات تتعثر بين المكاتب، وأشهر طويلة من الانتظار وكأن الاستحقاق الذي ناضل من أجله العمر كله أصبح مؤجلًا إلى إشعار آخر.   المشهد أمام أبواب التقاعد ليس مجرد طابور بشري، بل هو صورة مكثفة لمعاناة اجتماعية عميقة. رجال ونساء أفنوا أعمارهم في خدمة الدولة، يقفون اليوم تحت الشمس أو في برد الشتاء، يترقبون لحظة إنصاف قد تتأخر بلا سبب منطقي. إنهم لا يطالبون بامتيازات جديدة، بل بحقوقهم الطبيعية التي كفلها القانون، لكن البيروقراطية الثقيلة تجعل من هذا الحق رحلة شاقة، وكأنها اختبار جديد بعد انتهاء الخدمة.   الانتظار الطويل يترك أثرًا نفسيًا واجتماعيًا لا يُستهان به. فالمتقاعد الذي كان يومًا رمزًا للعطاء والإنتاج، يشعر اليوم أنه مهمش، وأن سنواته التي قضاها في العمل لم تُترجم إلى احترام يليق به. هذا الإحساس يولّد شعورًا بالخذلان، ويضعف الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ويجعل من أبواب التقاعد رمزًا للجمود بدل أن تكون بوابة للراحة والكرامة.   إن معاناة المتقاعد أمام هذه الأبواب تكشف خللًا في إدارة الملف الاجتماعي الأهم، وهو ملف من أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن. فالمجتمع الذي لا يكرم متقاعديه، ولا يسهّل لهم الحصول على حقوقهم، يضعف من قيم الوفاء والاعتراف بالعطاء. الإصلاح هنا لا يحتاج إلى شعارات كبيرة، بل إلى إجراءات عملية: تبسيط المعاملات، تقليص الروتين، وتفعيل الرقابة على الأداء الإداري.  المتقاعد ليس مجرد رقم في ملف، بل هو قصة حياة، وهو شاهد على تاريخ مؤسسات الدولة. إن إنصافه لا يعني فقط منحه راتبًا تقاعديًا، بل يعني إعادة الاعتبار لكرامته، وإرسال رسالة واضحة بأن المجتمع لا ينسى أبناءه الذين خدموه.   وهكذا، فإن (طوابير العمر) أمام أبواب التقاعد ليست مجرد مشهد يومي، بل هي قضية إنسانية تستحق أن تُفتح ملفاتها بجدية، وأن يُعاد النظر في آليات التعامل معها. فالمتقاعد الذي ينتظر اليوم، هو ذاته الذي صنع الأمس، ومن حقه أن يعيش غدًا بكرامة وطمأنينة.