حصيلة فعل الصدمة لغارة طوفان الأقصى
قتيبة آل غصيبة
لم يكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يوماً عادياً في التاريخ المعاصر؛ بل كان لحظة فاصلة في الصراع العربي الصهيوني؛ أعادت تعريف المفاهيم التي ظن العالم أنها استقرت منذ عقود، ففي فجر ذلك اليوم؛ انطلقت عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة؛ لتتحوّل في ساعات قليلة إلى أكبر اختراق أمني وعسكري في تاريخ الكيان الصهيوني منذ تأسيسه عام 1948؛ وتُزَلزِل البنية النفسية والسياسية والعسكرية لكيانٍ كان يتغذّى على صورة "الجيش الذي لا يُقهر".
إن الأثر الأعمق لم يكن في الخسائر المادية أو عدد القتلى الصهاينة؛ بل في "فعل الصدمة" الذي أحدثته العملية داخل الكيان الصهيوني أولاً؛ ثم داخل المجتمعات الغربية التي لطالما تبنّت الرواية الصهيونية بلا مُساءَلة، لقد هزّت الصدمة صورة ألكيان الصهيوني في الوعي الغربي، وأعادت طرح السؤال المؤجّل منذ عقود: (هل الكيان الصهيوني دولة قادرة على البقاء؛ أم أنها مشروع استعماري ينهار أمام أول اختبار وجودي حقيقي؟)
لحظة الانكشاف الصهيوني
أصابت عملية "طوفان الأقصى" الكيان الصهيوني بكافة مؤسساته بإرتباك شامل؛ كشف هشاشة المنظومة الأمنية التي طالما تباهت بها، فقد تسلّل مقاتلو المقاومة إلى عمق المستعمرات؛ سيطروا على مواقع عسكرية؛ وأسروا جنوداً ومدنيين؛ في مشهد بدا أقرب إلى انهيار الكيان منه إلى مجرد إخفاق استخباري، فقد كان ذلك بمثابة "الزلزال الأمني الأكبر" منذ حرب أكتوبر 1973؛ ولكن في هذه المرة أصاب الداخل الصهيوني لا الجبهة العسكرية فقط، واكتشف الصهاينة أنهم يعيشون في "فقاعة أمنية" خادعة؛ وأن تكنولوجيا التجسّس؛ والقبة الحديدية؛ وأجهزة المراقبة؛ لم تستطع منع مجموعة مقاتلين محاصرين من قلب معادلات القوة.
إن أول نتائج هذه الصدمة؛ كان انهيار الثقة بين الجمهور والمؤسسة العسكرية؛ فقد حمّل الصهاينة حكومتهم مسؤولية الكارثة؛ وبدأت الأصوات تتعالى ضد رئيس وزرائهم النتن ياهو بوصفه رمز الغطرسة السياسية التي أوصلت كيانهم إلى حافة الهاوية.
إن هذه الصدمة النفسية لم تكن لحظة عابرة؛ بل تحوّلت إلى "أزمة هوية" تهدد النسيج الداخلي للكيان الصهيوني؛ إذ طرحت من جديد سؤال الوجود: (هل المشروع الصهيوني قابل للاستمرار في بيئة معادية ومحاطة بالمقاومة من كل اتجاه؟)
حصيلة فعل الصدمة في الرأي العام الغربي
على مدى عقود؛ نجح الكيان الصهيوني في بناء صورة نمطية في الوعي الغربي؛ تقوم على ثلاث ركائز: "الضحية؛ الديمقراطية؛ والتفوق الأخلاقي" ، فالإعلام الغربي صوّرها؛ كملاذ لضحايا المحرقة؛ وكديمقراطية وحيدة في "بحرٍ من الاستبداد"؛ وكقوة تدافع عن نفسها ضد "الإرهاب الإسلامي"، لكن مع "طوفان الأقصى"؛ بدأ هذا البناء الدعائي يتصدّع؛ فالمشاهد القادمة من غزة بعد الردّ الصهيوني الوحشي؛ عشرات آلاف القتلى من النساء والأطفال؛ أحياء تُمحى بالكامل ومستشفيات تُقصف؛ دفعت قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي إلى التساؤل: (من هو الضحية الحقيقي؟)، فانتشرت المظاهرات في العواصم الغربية؛ من لندن إلى نيويورك وباريس وبرلين؛ رافعة شعارات غير مسبوقة في جرأتها: "أوقفوا الإبادة في غزة"؛ "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".
لنجد ان الأجيال الشابة؛ خصوصاً في الجامعات الأمريكية؛ لم تعد تتبنى الرواية الصهيونية؛ كما فعلت ألاجيال التي سبقتها؛ بل أصبحت أكثر وعياً بما يمارسه الكيان الصهيوني من سياسات فصل عنصري؛ وحرب إبادة؛ وتطهير عرقي.
لقد تحوّل "فعل الصدمة" من كونه ضربة عسكرية إلى صدمة أخلاقية وفكرية في الوعي الغربي؛ فالغرب الذي صُدم بدايةً من مشاهد اختراق حدود إسرائيل؛ وجد نفسه أكثر صدمة أمام مشاهد الإبادة التي تلتها، وبذلك انقلب ميزان التعاطف تدريجياً من الصهاينة إلى الفلسطينيين؛ لأول مرة منذ عقود.
انهيار السردية الصهيونية في الفضاء الإعلامي
تاريخياً، كانت إسرائيل تُتقن إدارة الحرب الإعلامية؛ إذ تُصدّر نفسها باعتبارها "الضحية الدائمة"؛ فيما تُشيطن المقاومة الفلسطينية بوصفها "إرهاباً"، إلا انه بعد "طوفان الأقصى"؛ بدأت هذه الآلة الدعائية تفقد فعاليتها، فوسائل التواصل الاجتماعي كسرت احتكار الصورة والخبر؛ وسمحت للشعب الفلسطيني بنقل مشاهد الدمار والضحايا في اللحظة ذاتها، ولم يعد الإعلام الغربي قادراً على تجاهل ما يراه العالم كله بالعين المجردة، وفي الوقت الذي حاولت الحكومات الغربية تكرار خطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"؛ فإن قطاعات واسعة من الصحفيين والمثقفين الغربيين تمردت على هذا الخطاب؛ معتبرة أن "الدفاع عن النفس لا يعني إبادة شعب بأكمله".
هكذا بدأ التصدع في جدار الرواية الصهيونية؛ وهو تصدع ذو طابع تاريخي، فقد أكد المفكر الفرنسي (جاك رانسيير)؛ في مقابلة مع؛ "صحيفة اللوموند الفرنسية الصادرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023" : (أن إسرائيل أصبحت "نظام فصل عنصري كامل"، مضيفاً أن ما يجري في غزة "يُعيد إلى الأذهان حصار غيتو وارشو، لكن بغطاء دولي هذه المرة...")؛ (غيتو وارشو هي المحرقة التي لحقت باليهود من قبل النازيين خلال الحرب العالمية الثانية)؛ وإن المقارنة بين غزة ومحارق النازيين لليهود؛ لم تكن مجرد استعارة؛ بل تحولت إلى مرآة أخلاقية تعكس ازدواجية المعايير الغربية التي تبرّر العدوان الصهيوني بينما تدّعي الدفاع عن القيم الإنسانية.
الصدمة والارتداد داخل الغرب السياسي
لم تقتصر تداعيات الصدمة على الرأي العام الشعبي؛ بل امتدت إلى دوائر صنع القرار في الغرب، ففي الولايات المتحدة؛ واجه الرئيس السابق جو بايدن أكبر أزمة أخلاقية داخل قاعدته الانتخابية الديمقراطية؛ خصوصاً بين الشباب واليسار التقدّمي الذين رفضوا دعمه غير المشروط لإسرائيل، وفي أوروبا؛ وجدت الحكومات نفسها بين مطرقة الضغوط الإسرائيلية وسندان الشارع الغاضب؛ فالمظاهرات المليونية التي عمّت العواصم الأوروبية كشفت حجم التحوّل في المزاج العام؛ وأجبرت بعض البرلمانات على مناقشة ملفات كانت تُعتبر محرّمة؛ مثل وقف تصدير السلاح للكيان الصهيوني؛ والاعتراف بالدولة الفلسطينية، أما في الإعلام الأمريكي؛ فقد بدأ صحفيون كبار في مؤسسات مثل؛ "نيويورك تايمز وسي أن أن"؛ يكتبون بلغة لم تكن مألوفة من قبل؛ يتحدّثون عن "جرائم حرب وإبادة ممنهجة وتطهير عرقي..).
إن هذا التبدّل في اللغة الإعلامية يشير إلى تآكل النفوذ الصهيوني داخل الرأي العام الغربي؛ وهو ما لم يكن متصوراً قبل "طوفان الأقصى".
مستقبل الكيان الصهيوني بين الصدمة والبقاء
إن عملية "طوفان الأقصى" أعادت
تعريف مفهوم الأمن في الكيان الصهيوني، فبعد أن كان يُقدّم هذا الكيان نفسه كقلعة منيعة تحيط بها الأسوار؛ أدرك الصهاينة؛ (أن لا جدار يمكن أن يحمي مشروعاً يقوم على نفي الآخر.. ).
لقد زعزعت الصدمة أسس نظرية الأمن الصهيونية القائمة على الردع والهيمنة؛ وأثبتت؛ (أن الردع لا يمكن أن يستمر في مواجهة شعب مستعد للتضحية.)
أن أخطر ما في صدمة طوفان الاقصى؛ أنها أطلقت سلسلة تفاعلات داخلية تهدّد الكيان من الداخل وذلك من خلال، تصاعد الانقسام بين اليمين الديني والعلماني؛ وتراجع الثقة بالجيش بعد الفشل في حماية المستوطنات؛ وهجرة عكسية متزايدة ليهود أوروبا وأمريكا بعد فقدان الإحساس بالأمان؛ وأزمة اقتصادية خانقة بسبب طول أمد الحرب وفقدان الاستثمار الخارجي.
كل هذه العوامل تجعل الكيان الصهيوني أمام مأزق وجودي حقيقي؛ لا لأن المقاومة قادرة على هزيمتها عسكرياً؛ بل لأن الصدمة؛ (ضربت أساس شرعيتها الداخلية والخارجية معاً)، وهذا ما يؤكده؛ "المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي؛ ت: 1975"؛ في تفسيره لسقوط الحضارات؛ عندما قال: (ليست الضربات الخارجية هي التي تميت الأمم؛ بل انهيار قدرتها على التكيّف مع التحديات الداخلية...)؛ وهذا بالضبط ما يواجهه الكيان الصهيوني اليوم.
طوفان الأقصى كتحوّل استراتيجي
من منظور استراتيجي، لم تكن العملية مجرّد هجوم عسكري؛ بل نقطة تحوّل في مسار الصراع، فقد أثبتت أن المقاومة الفلسطينية باتت تمتلك قدرة تخطيط وتنفيذ وتنسيق عالية المستوى، وأنها نجحت في فرض معادلة جديدة: (لا أمن للكيان الصهيوني دون حل عادل للقضية الفلسطينية)؛ كما كشفت العملية أن عصر الهيمنة الصهيونية المطلقة قد انتهى؛ وأن أي حرب مقبلة لن تكون مواجهة بين جيش ودولة؛ بل بين مشروعين متناقضين في الجوهر: (مشروع احتلال واستيطان؛ ومشروع تحرر وكرامة وطنية.)
إن هذه الصدمة دفعت أيضاً؛ بعض النخب الغربية إلى إعادة النظر في مبدأ "التفوق الأخلاقي الصهيوني"؛ إذ كيف يمكن لدولة " تدعي الديمقراطية" أن تمارس الإبادة على الهواء مباشرة؟؛
(لقد سقطت أخلاقياً قبل أن تُهزم عسكرياً؛ وسقط معها كثير من الأقنعة التي كانت تحتمي بها في المحافل الدولية.)
نتائج الصدمة على النظام الدولي
لقد امتدت آثار "طوفان الأقصى" إلى ما هو أبعد من حدود فلسطين والكيان الصهيوني، فقد كشفت العملية، هشاشة النظام الدولي نفسه؛ وعجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن عن وقف الحرب أو حماية المدنيين، كما فتحت الباب أمام إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية؛ فقد تعزّز المحور الرافض للهيمنة الغربية؛ وتزايدت الأصوات التي ترى أن "العدالة الدولية" مجرد شعار يُستخدم لخدمة مصالح القوى الكبرى.
في المقابل، فالولايات المتحدة التي تُعتبر الدولة الراعية للنظام الدولي الحالي؛ وجدت نفسها أمام تحدٍ مزدوج، هو: الحفاظ على دعمها التقليدي للكيان الصهيوني؛ وعدم خسارة نفوذها في العالم العربي والإسلامي الذي شهد موجة غضب غير مسبوقة.
أما الصين وروسيا، فقد استغلتا الموقف لتصوير نفسيهما كمدافعين عن العدالة الدولية؛ ما زاد من عزلة واشنطن.
هكذا، (فقد تحوّلت الصدمة من حدث فلسطيني إلى زلزال جيواستراتيجي يعيد رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط.)
من الصدمة إلى التحوّل التاريخي
يمكن القول إن "طوفان الأقصى" لم يكن فقط عملية عسكرية بل حدثاً كاشفاً لحقيقة لم يجرؤ العالم على الاعتراف بها: (أن الكيان الصهيوني ليس دولة طبيعية؛ بل كيان قائم على الخوف؛ وأن أي خلل في منظومة الردع يكشف هشاشته الوجودية.. )، لقد مثّل فعل الصدمة لحظة جديدة لوعي كوني جديد تجاه القضية الفلسطينية؛ قلبت معادلات الرأي العام؛ وأطلقت مساراً قد يكون بطيئاً لكنه لا رجعة فيه نحو نزع الشرعية الأخلاقية عن الكيان الصهيوني، ومع استمرار العنجهية الصهيونية؛ فإن هذا التحول يتعمّق يوماً بعد آخر؛ حتى داخل المجتمعات الغربية التي كانت يوماً سنداً استراتيجياً للكيان الصهيوني .
إن صدمة طوفان الأقصى لم تكن هزيمة للكيان الصهيوني فقط؛ بل انكشافاً للعالم الغربي أمام ذاته؛ أمام ازدواجية معاييره وعجزه عن حماية القيم التي يدّعي الدفاع عنها، أما بالنسبة للشعب الفلسطيني البطل؛ ومن يناصرها من العرب والمسلمين الشرفاء؛ فقد كانت الصدمة إعلاناً لولادة مرحلة جديدة من المقاومة؛ مرحلة (الوعي بالقوة؛ والثقة بالقدرة على تغيير المعادلات لا بالعدد ولا بالعتاد، بل بالإرادة والعقيدة والإصرار على الحرية. )
وسبحان الله العظيم القائل في سورة الروم : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)..
وإن الله مع الصابرين..