الغباء الإصطناعي
شيرزاد نايف
حين سألتُ الذكاء الاصطناعي ذات مساءٍ عمّا إذا كان أحدهم قد كتب يوماً بعنوان “الغباء الاصطناعي”، جاءتني إجابته على نحوٍ مثيرٍ للدهشة، إذ أرسل لي قائمةً مفصّلة تشير إلى أن هناك بالفعل كتاباً يحمل هذا العنوان لمؤلفٍ آخر. كنت قد نويت في الأصل أن أكتب مقالاً بهذا الاسم، لأطمئن القارئ إلى أن الفكرة من صميم خواطري وليست منقولة عن أحد، غير أن اكتشافي لتلك المصادفة جعلني أدرك أن التشابه في العناوين لا يعني بالضرورة تشابهاً في الأفكار، وإنّما هو التقاءُ عابر عند بوابة اللغة، يفرّقه المعنى وتفرزه النيّة. فـ»الغباء الاصطناعي» الذي خطر ببالي لم يكن عنواناً على ورق، بل تساؤلاً يشتعل في عمق العلاقة بين الإنسان وما صنعه من ذكاءٍ بات يشبهه أكثر مما يظن. وربما كانت الأداة التي سهّلت لي اكتشاف هذا التشابه هي نفسها التي أكتب عنها الآن: الذكاء الاصطناعي الذي صار مرآةً للكاتب، وخصماً في آنٍ واحد، وها هنا بيت القصيد وزبدة الفكرة ومنطلق هذا الحديث. إنّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس في ماهية الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في كيفية التعامل معه وجدانياً وشرعياً. كيف نستفيد منه دون أن نتحوّل إلى دمى في يده؟ وكيف نحافظ على صدق القلم في زمنٍ بات فيه النص يولد من خوارزميةٍ أكثر مما يولد من تجربة؟ لقد كثرت التكهنات والانتقادات في الوسط الإعلامي والثقافي حول الكتّاب الذين يستعينون بالذكاء الاصطناعي، حتى باتت أعمالهم محلّ شكٍ عند البعض. غير أن الإنصاف يقتضي أن نميّز بين من كان يكتب قبل هذه الطفرة التكنولوجية ولديه باعٌ طويل وتجربةٌ أصيلة، وبين من استسهل الطريق واتخذ الذكاء الاصطناعي ستاراً يخفي وراءه خواء الفكر وافتقار التجربة. فالكتابة عبر الذكاء الاصطناعي ليست كتابة رأيٍ ذاتيٍّ بالمعنى الإنساني، بل هي عملية إبداعٍ موازية، لا يتقنها إلا من يعي حدودها الأخلاقية والمعرفية، تماماً كما يدرك الصحفي الحقيقي الفرق بين الخبر وصاحبه، بين النص وصاحبه، بين من يكتب بفكره ومن يكتب بأداةٍ تفكّر نيابةً عنه. إن الكتابة بالذكاء الاصطناعي فنٌّ لا يتقنه إلا الأذكياء فطرةً، أولئك الذين يعرفون كيف يجعلون من الأداة وسيلةً لا غاية، ومن التقنية خادماً لا سيّداً. وكما قال الشاعر الأندلسي ابن حمديس: “إنّ الغربال لا يحجب ضوء الشمس”، فالحقيقة لا تُخفى وإن غطّتها الأيدي المترددة أو الأصوات المشككة. الخطورة الحقيقية لا تكمن في الأداة نفسها، بل في استخدامها، في الجيل الذي سينشأ على الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي دون أن يتعلّم التفكير الحرّ، في أن نصنع عقولاً مبرمجة لا قلوباً مفكرة. وهنا تتجلّى مفارقة العنوان: فالغباء الاصطناعي ليس ما تنتجه الآلات من أخطاء، بل ما ننتجه نحن حين نسلّم لها زمام عقولنا. إنّ مستقبل الإنسان لن يُقاس بمدى ذكاء ما يصنع، بل بمدى احتفاظه بذكاء روحه، تلك الشعلة التي لا خوارزمية تستطيع تقليدها، ولا ذكاءٍ مهما بلغ يستطيع أن يمنحها الحياة.