جائزة الآداب وتانغو الخراب
رحمن خضير عباس
وأخيرا فاز الروائي المجري لاسلو كراسناهوركاي بجائزة نوبل للأدب لعام 2025. وقد نال الجائزة تقديرًا لـ قوة لغته المتناغمة بين الفوضى والنبوءة، وقدرته على تصوير الانهيار الأخلاقي والوجودي للإنسان الحديث.
ومن أبرز أعماله رواية «تانغو الشيطان» (Sátántangó)، وهي التي جعلته أبرز أعمدة الأدب المجري الحديث.
وتصور رواية (تانغو الخراب) كما تُرجمت إلى اللغة العربية عالما قاحلا في إحدى القرى المجرية النائية بعد سقوط النظام الاشتراكي، حيث يعيش مجموعة من الناس في عزلة وانهيار روحي واقتصادي تام. وكأن الرواية حكاية عن الخداع والأمل الزائف والانهيار البطيء للمجتمع، في جوّ كابوسي خانق.
ففي قرية منسية محطّمة بعد انهيار التعاونيات الزراعية، يعيش الناس على حافة الجوع واليأس. ويشيع خبر عودة الأخوين إستيقن وإستِرك، فيظن السكان أنهما سيخلّصانهم من بؤسهم.لكن الأخوين يستغلان سذاجة القرويين وخوفهم، فيقنعانهم بأن هناك مشروعًا جديدًا سيعيد الحياة للقرية، فيبيع الناس ممتلكاتهم ويتبعونهما، لينتهي الأمر بهم إلى خراب أشدّ.،بينما الطبيب السكير يسجل كل ما يحدث،عبر ملاحظاته عن جميع السكان، وكأنه شاهد سلبي على زمن شرس وفوضوي بائس.لقد كان الزمن متكررا في أحداثه مثل رقصة التانغو: خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف في رتابة وتكرار، بحيث ترمز إلى حركة العالم بين الفوضى والنظام وبين الأمل واليأس، في قرية جعلها الكاتب عالما مصغرا للعالم بعد انهيار الأيديولوجيات الشمولية التي تضطهد الإنسان. بعد تسع سنوات من صدور الرواية اقتبس المخرج المجرب بيلا تار أحداث الرواية، ليقدم للسينما فيلما من أغرب وأطول الأفلام في تاريخها،كان ذلك عام ١٩٩٤، فقد استغرق عرضه سبع ساعات كاملة. ولكي يلتصق المخرج بأجواء الرواية بشكل أدق فقد ألغى الألوان، واعتمد على الأسود والأبيض الذي استطاع من خلاله أن يقبض على فحوى الخراب، فالكاميرا تتجول ببطء شديد، كي تمسح كل تفاصيل الحياة وزواياها، وكي تجسّد حالة البؤس الذي يعيشه أهل تلك القرية.
إنها رقصة الشيطان التي يعيشها هؤلاء الناس الذين وجدوا أنفسهم في جحيم هذه البيئة الشحيحة، حيث الساحات المُقفرة والشوارع الآسنة، والبيوت القديمة والمتهرئة، وليس لديهم سوى الحانة الوحيدة التي يشربون فيها حتى الثمالة وفقدان الوعي، وحيث يرقصون بدون فرح وكأنهم يصارعون ذواتهم التي تتنازعها الرغبات المتوحشة، والخيانات، وممارسة الجنس والهذايانات التي تُشبه الشعر،والتي يلوكها أحدهم على أنغام صوت الأوركديون، في حالة من غياب الوعي والاستلاب الروحي، والانسلاخ عن روح الجماعة، حيث الوجوه الشمعية التي لا يبدو عليها سوى الصمت والذهول.
المطر يرافق أغلب زمن الفيلم، فينهمر بغزارة، ومستنقعات الوحل والطين، والمواشي التي تسرح في فضاء لا يوفر الكلأ، ثم يظهر أيرماس وصديقه بيترينا يمشيان نحو مركز الشرطة، وبعد انتظار طويل،وتأمل الزمن من خلال ساعتين جداريتين مختلفتين في التوقيت، مما يجعل أيرماس،يهمس وهو يحدق في الساعتين:
" الوقت في الساعتين مختلف، ويبدو أن أحدهما بدلا أن تُشير إلى الوقت، فإنها تعبر عن حالتنا الميؤوس منها "
يقابلهم نقيب الشرطة الذي يرمز للسلطة التي تفرض مفاهيمها، من خلال المحاورة التي تناولت مفهوم الحرية والالتزام، ونستطيع أن نفهم من خلال ذلك، أن السلطة قد جندتهما لمعرفة ما يدور في المزرعة التي هي ضمن أملاك الدولة في زمن الاشتراكية في هنگاريا.
وفي محاولة لاستعراض بعض شخوص القرية، يجد المشاهد بأنهم يعيشون في الحضيض، دون أن يبيّن ماهيّة أسبابه، فطبيب القرية مدمن على شرب الخمر، ويعيش في بيت متآكل هو أقرب للزريبة منه إلى البيت البشري، ويحاول من خلال منظاره أن يتجسس على حركات وأفعال البيوت الأخرى، دونما سبب، سوى الهواجس الغريبة التي تنتابه وتساهم في عزلته، وحينما التقى الطبيب بالصبية الصغيرة أستيكي ، والتي طلبت مساعدته، يصرخ بوجهها،لأنه كان منشغلا بتدبير خمرته اليومية التي يجلبها من أحد مخازن الفودگا والبراندي المظلمة والتي تقع في السرداب، وحينما تعرض عليه الشابة المومس فكرة تعاطي المُتعة،لأنها تعاني من شحة لقمة الخبز للبقاء ، لم يكترث لها أيضا. إنه يعيش لكي يثمل، وهكذا بقي يعيش عبء عاداته اليومية المجنونة، والتي تنزع إلى الانفصال عن الواقع. وحتى حينما شعر بأن أهل القرية قد رحلوا، عمد إلى إغلاق نوافذ شقته بألواح خشبية، ليسدل على نفسه ستارا كثيفا من العزلة.
الصبيّة الصغيرة إستيكي ضائعة أيضا ، فهي وحيدة لأن أمها لا تكترث لها، أما أخوها الأكبر فيقنعها في دفن نقودهما معا في حفرة، ولكنها تعود إلى الحفرة لتجد أنه خدعها بأخذه النقود. هذه الطفلة تعيش حالة ضياع وإحساس بالاضطهاد، عكسته على قطتها الأليفة، فقامت بتعذيبها ، وتعليقها بالمصيدة ولم تكتف بذلك، بل عمدت إلى البحث عن سم الفئران، وخلطته بالحليب لأجبار القطة على لعقه، وحينما تموت القطة تحملُ جسدها المتخشب بيدها، ولتلتهم ما تبقى من سم الفئران فتموت وبيدها قطتها الميّتة.
لقد كان الخداع مهيمنا على هذه الرقصة الحياتية السوداء،التي سميّت تانغو الشيطان، حيث الخيانات لنساء ورجال، لم يأبهوا لحرمة الخصوصية، أو لحرمة العيش المشترك، فالطبيب مخادع،لأنه تخلّى عن مهنته الإنسانية، وضاع في الإدمان،ومدير المدرسة مخادع أيضا لأنه تخلى عن واجباته التربوية والأخلاقية، والطفلة خُدعت من أخيها وخُذلت من أمّها،فعكست هذا الخداع على قطتها التي أغرتها بالحليب الممزوج بسم الفئران، بعد أن عذبتها قبل أن تميتها،وأيرماس وصاحبه بيترينا يخدعون الأهالي لأنهم يتعاونون مع الشرطة، والشرطة تترك المزرعة التي تعود إلى الملكية العامة إلى قدرها. وأعتقد أن مخرج الفيلم قد رمز في هذا الفيلم إلى الفساد القائم في نظام الحكم الهنگاري أثناء المرحلة الاشتراكية.
إنه عالم مُقفر ويائس تسوده الغرابة والسوداوية،في ظلّ طقس بارد ومكفهر،يرافقه المطر الغزير والذي يساهم في تكثيف العزلة وتضييقها.
وحينما يظهر لهم إيرماس الذي كان يُعتقد بأنه ميت، فأصبح بعينهم كالمخلّص، وقد انتهز تأبين الصبيّة الميتة في مراسيم دفنها، فقام بإلقاء خطبة طويلة، في محاولة منه لغسل مشاعر الإثم التي انتابتهم، وبعد ذلك سوّق لهم فكرة الهجرة عن هذه المزرعة، حيث يمكن أن يحققوا تغييرا في منهج حياتهم.
فيقومون بالتخلص من بعض أثاثهم العتيقة،ويجمعون بعضا من متاعهم، ليقوموا برحلتهم المُضنية. وحينما يصلون إلى مكان ما، لم تتحدد هويته، يقوم إيرماس بتوزيع بعض مدخرتهم من النقود عليهم، ولكنهم يدركون أن المكان الذي وصلوا إليه، ليست الجنة التي حلموا بها ،وإنهم انتقلوا من ضياع معروف إلى ضَياع آخر غير واضح المعالم.
لقد قسّم المخرج هذا الفيلم الطويل إلى إثني عشر مقطعا،مُستخدما لغة بصرية مكثّفة،تعتمد على التقصي البطيء حد الملل،إلى كل زوايا المشهد، كما استخدم نوعا من الموسيقى الرتيبة أو الصمت،في أغلب مشاهد الفيلم، وأحيانا يلجأ إلى اللغة التي تعبر أيضا عن روح اليأس ، ولاسيما حينما يتحدث الرجل الثمل ويقرأ ما يُشبه القصيدة أثناء رقصة التانغو التي كانت تشبه الصراع من أجل لا شيء.
ومن الناحية الفنية، بإمكان المخرج ضغط الوقت إلى النصف أو أقل، ليكون ساعتين أو ثلاث، ولكنّه أراد أن يقدم تُحفة بصرية وسينمائية،تصلح للمهرجانات والجوائز أكثر من صلاحيتها لشباك التذاكر. وفعلا حدث هذا، فهذا الفيلم الذي حصد العديد من الجوائز العالمية، وتلقى الإشادة من نقاد سينمائيين كبار،ولكن لم يحالفه الحظ من قِبَلِ جمهور المشاهدين،وذلك لأن محبي أفلام الفرجة والقصص الرومانسية،أو الرعب والجريمة،لا يروق لهم مثل هذا الفيلم المشبّع بالرموز، والذي يخلو من أيّة عناصر الجذب.