الحرب على غزة 2023–2025.. منطق القوة ومعادلة الإستنزاف
محمد عبد الجبار الشبوط
مقدمة
انتهت حرب غزة الأخيرة بعد نحو عامين من القتال المتقطع والمعارك البرية والجوية، بوقف إطلاق نار هش وصفقة رهائن معقدة في أكتوبر 2025. ومع أنها طُرحت في الخطاب السياسي على أنها مواجهة بين “محور المقاومة” و”التحالف الغربي–الإسرائيلي”، فإن حصيلتها النهائية لا تشير إلى انتصار حاسم لأي طرف.
انتهت الحرب إلى معادلة “لا غالب ولا مغلوب” في معناها العسكري، لكنها تركت وراءها كلفة بشرية وجيوسياسية هائلة، وأعادت رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط على أسس جديدة.
أولًا: المشهد الميداني – تفوق تكتيكي بلا حسم استراتيجي
منذ اندلاعها في أكتوبر 2023، سعت إسرائيل إلى القضاء على حماس واستعادة الردع، ونجحت في اغتيال قيادات الصف الأول وتفكيك القدرات الصاروخية، لكنها فشلت في القضاء على الحركة كفكرة وشبكة لامركزية.
أما حماس، فصمدت بما يكفي لتبقى فاعلًا سياسيًا، لكنها فقدت قدرتها على الحكم والسيطرة.
انتصار تكتيكي لإسرائيل – مقابل صمود استراتيجي للفلسطينيين.
ثانيًا: الكلفة الإنسانية والاقتصادية
بلغت خسائر غزة أكثر من 67 ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى، ودمارًا شبه كامل للبنية التحتية.
أما إسرائيل، فقد تكبّدت نحو 250 مليار شيكل كلفة مباشرة وغير مباشرة، وانكماشًا اقتصاديًا مؤقتًا.
وفي لبنان، خلّفت المواجهة مع حزب الله أكثر من ألفي قتيل وأضرارًا بمليارات الدولارات دون مكسب استراتيجي.
النتيجة: الثمن البشري والمادي يفوق أي مكسب سياسي أو عسكري.
ثالثًا: المحور الإقليمي – “انتصار الخطاب، خسارة الميدان”
لم يُهزم “محور المقاومة” عسكريًا، لكنه خرج مثقلًا بالخسائر والاغتيالات والضربات الأمنية في طهران ودمشق، بينما لم يحقق اختراقًا استراتيجيًا في الميدان.
فقد حافظ على أدواته، لكنه خسر جزءًا من رصيده الرمزي، وتراجعت قدرة ردعه أمام إسرائيل والغرب.
رابعًا: إسرائيل – بين الردع والورطة
بالنسبة لإسرائيل، مثّلت الحرب نصرًا بلا مجد:
استعادت رهائنها وأضعفت حماس، لكنها فشلت في فرض واقع دائم.
تعرّضت لعزلة دولية متنامية، وزادت الاعترافات بدولة فلسطين، وتآكلت صورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
ربحت إسرائيل المعركة، لكنها خسرت السردية.
خامسًا: فلسطين – من الكارثة إلى إعادة التشكل
رغم الكارثة الإنسانية، استعادت القضية الفلسطينية مركزيتها الدولية.
تنامى الاعتراف بدولة فلسطين، وتزايد الضغط الدولي لإعادة الإعمار، بينما بدأت ملامح إعادة هيكلة المشروع الوطني خارج الأطر الأيديولوجية الضيقة.
قد تكون هذه الحرب نهاية حكم حماس، لكنها أيضًا بداية إعادة تعريف الهوية الفلسطينية السياسية.
سادسًا: دلالات الحرب على التوازن الإقليمي
إيران: أُجبرت على الاكتفاء بالحرب بالوكالة، وتعرضت لاختراقات أمنية غير مسبوقة؛ قوتها الردعية تراجعت جزئيًا.
حزب الله: تكبّد كلفة عالية دون مكسب نوعي.
مصر والأردن والسعودية: صعد وزنها السياسي كوسطاء إقليميين لا يمكن تجاوزهم.
الولايات المتحدة: استعادت جزئيًا دور الوسيط لكنها دفعت ثمنًا شعبيًا في العالم العربي.
إسرائيل: ازدادت ردعًا ميدانيًا، وضعفت سياسيًا.
الفلسطينيون: أكثر ألمًا، لكن قضيتهم أكثر حضورًا.
سابعًا: التقدير الاستراتيجي الختامي
من انتصر؟ لا أحد بمعناه الكامل. إسرائيل تفوقت عسكريًا لكنها فشلت سياسيًا، وحماس صمدت لكنها فقدت سلطتها.
من خسر؟ المدنيون أولًا، ثم محور المقاومة الذي دفع أثمانًا باهظة دون مكاسب ملموسة.
المعادلة العامة: تعادل مُنهِك، نصر بلا مجد، وهزيمة بلا سقوط.
آفاق ما بعد الحرب – الدولة الواحدة أم الدولتان؟
ملامح ما بعد الحرب
بعد انتهاء العمليات العسكرية، عاد النقاش الجوهري: إلى أين يتجه الصراع؟
هل يقترب العالم من مشروع الدولة الواحدة لكل فلسطين التاريخية، أم أن حلّ الدولتين استعاد شرعيته السياسية؟
الإجابة المعقّدة هي أن الدولة الواحدة اقتربت كواقعٍ مفروض، لكنها ابتعدت كحلّ سياسي مشروع.
أولًا: الدولة الواحدة كأمر واقع
الوقائع الميدانية تشير إلى سيادة إسرائيلية واحدة تتحكم في الأمن والموارد من النهر إلى البحر، مع تدرّج في الحقوق والمساحات.
هذا الواقع تعمّق بعد الحرب نتيجة تفكك مؤسسات الحكم في غزة، وتوسّع الاستيطان في الضفة.
لكنه يواجه خطرين: ضغط قانوني دولي متزايد وتآكل شرعية إسرائيل السياسية والأخلاقية في العالم.
دولة واحدة غير معلنة، لكنها قائمة فعليًا، تحكمها السيطرة لا المساواة.
ثانيًا: الدولة الواحدة الديمقراطية
هذا الحل، القائم على المساواة الكاملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل كيان واحد، ما زال حلمًا نظريًا بعيد المنال.
يتطلب تحوّلًا فكريًا جذريًا داخل المجتمع الإسرائيلي، وقيادة فلسطينية موحدة تتبنى رؤية مدنية عابرة للهويات.
احتماله في الأجل القريب ضعيف جدًا، إذ لا استعداد سياسي أو اجتماعي حقيقي لقبوله من الطرفين.
ثالثًا: حلّ الدولتين
رغم أن الجغرافيا تعمل ضده، إلا أن السياسة الدولية تعمل لصالحه.
فبعد حرب غزة، زادت الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، وارتبطت أي ترتيبات إقليمية أو تطبيع عربي بالتقدم نحو هذا المسار.
من الناحية العملية، يمكن أن يبدأ الحل عبر تجميد الاستيطان، وترتيبات أمنية عربية–دولية، وخطة إعمار مشروطة بإصلاح السلطة الفلسطينية.
احتمال التقدّم في هذا المسار خلال 2025–2027 متوسط، لكنه الأعلى بين الخيارات الثلاثة.
مقارنة مختصرة
الدولة الواحدة كأمر واقع: تستمر بفعل القوة، لكنها تخلق نظامًا هشًّا واستنزافيًا.
الدولة الواحدة الديمقراطية: أخلاقيًا مثالية، لكنها بعيدة سياسيًا وعمليًا.
حلّ الدولتين: الأقرب للتحقق سياسيًا، لكنه يتطلب كبح الوقائع الميدانية التي تناقضه.
التوصيات الاستراتيجية
تقليل مخاطر الواقع القائم: عبر تحسين الأوضاع الإنسانية وتخفيف الاحتكاك الميداني.
استثمار الزخم السياسي نحو الدولتين: بخطوات عملية ومرحلية، تشمل وقف الاستيطان وتفعيل مسار إعادة الإعمار تحت إشراف دولي.
حماية الحقوق الإنسانية بغض النظر عن الحل النهائي: لضمان الحد الأدنى من الاستقرار والشرعية.
خلاصة
بعد حرب غزة، أصبح الواقع السياسي أقرب إلى دولة واحدة قسرية، لكن الشرعية الدولية والشعبية تميل نحو دولتين متجاورتين.
وبين هذين الاتجاهين تتشكل السنوات القادمة:
واقع يفرض الوحدة بالقوة، وسياسة تحاول إعادة الفصل بالشرعية.