الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
والعبّاس هذا مو معلم .. هذا داود

بواسطة azzaman

والعبّاس هذا مو معلم .. هذا داود

أحمد جاسم الزبيدي

 

كلما أعود بذاكرتي إلى أيام الطفولة، أبتسم من حلاوة المواقف التي علّمتني الصبر على الغربة والفقر، وكيف يتحوّل الانكسار إلى ضحكة صغيرة تسندك في أصعب المواقف. تلك الذكريات ليست مجرد حكايات، بل هي الجذور التي صنعت عنادي وتحمالي للخذلان وخيانات الأقربين في المنافي والجاليات العراقية الصغيرة.

كنت في الصف الأول الابتدائي، أتعلم على يد معلم لطيف من الحلة اسمه الأستاذ حكمت — رجل فيه وداعة الأنبياء وصبر المربين، أحببناه كما يحب الطفل أمه. كان يعلّمنا كيف ننطق الحروف كأنها أنغام، وكان غيابه يورث الحزن في صفنا الصغير.

وذات صباح، دخل علينا الأستاذ حكمت ومعه شاب وسيم أنيق، وقال بابتسامة :

هذا الأستاذ داود سيحلّ مكاني أسبوعاً واحداً»

غشينا الحزن. كيف يبتعد عنا أستاذنا، ويحلّ مكانه هذا الغريب؟ لكن المفاجأة أن الشاب الجديد لم يكن غريباً تماماً — لقد كان صديق أخي الأكبر حميد، المرحوم داود سلمان الكيرخ، الذي كنت أراه كثيراً في بيتنا، يمازحني ويحملني على ذراعيه. وها هو اليوم يرتدي بدلة المعلم ويقف أمامنا بوقار، كأنه شخص آخر!

خلال الحصة، كنت أبتسم له مراراً، أرسل إليه نظراتي الطفولية علّه يتعرّف إليّ، لكنه تجاهلني — أو هكذا خُيّل إليّ. انتهى الدرس، خرج داوود من الصف، فاندفع حمودي الصغير فوق الرحلة، وصاح بصوت عالٍ يجلجل في الصف كله:

«والعبّاس! هذا مو معلم… هذا داود صديق أخوي حميد

انفجر الصف ضاحكاً، وطار الخبر إلى المعلم كما تطير الأخبار في المحاويل: بسرعة البرق، وبشيء من البهارات. وفي المساء، وجدت أخي حميد ومعه داوود بانتظاري، والنية ظاهرة على وجهيهما: توبيخ قادم. لكن داوود ابتسم، ربت على كتفي وقال لي بحنان:

«إي حمودي، أني داوود صديق حميد… بس اليوم أنا معلم»-

اليوم، بعد عشرات السنين، صارت الدنيا كلها صفًّا واحدًا، وامتلأت بمن يحلفون مثل حمودي، لكن ليس ببراءته.

صار كل من لا يعجبهم «فلان»، يرمونه بألف تهمة: «حرامي»، «بعثي»، «ابن سفارة»… وفضائيات تُضيف البهارات على الأكاذيب، كأنها تطبخ للانتخابات لا للحقيقة.

لكن بين كل هذا الضجيج، يبقى قسم حمودي الصغير أنبل الحلفانات: لم يكن يقصد إهانة، بل وجع طفل شعر أن صديق أخيه لم ينتبه إليه.

رحم الله داود الكيرخ

أما أنا، فما زلت حين أسمع أحدهم يقسم كذباً على الفضائيات، أضحك وأقول في نفسي:

«والعباس، هذا مو معلم… هذا داود

 

 

 


مشاهدات 138
الكاتب أحمد جاسم الزبيدي
أضيف 2025/10/11 - 2:26 PM
آخر تحديث 2025/10/16 - 6:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 396 الشهر 10660 الكلي 12150515
الوقت الآن
الخميس 2025/10/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير