ليلة خريف
حسن النواب
كانت ليلة خريف تلك التي جمعتني لأول مرة مع كزار حنتوش في عام 1982، وكنا حينها قد انتهينا من أمسية في قاعة مكتبة الديوانية؛ جئنا لها من كربلاء. وممن قرأ فيها فاضل عزيز فرمان وهاشم معتوق وصلاح حسن وشاعرا الحلة شكر حاجم الصالحي وجبار الكواز؛ اللذان كان نجمهما حين ذاك بألقهِ؛ كونهما ينشران في الصحف قصائد تعبوية عن الحرب بشكل لافت، وأذكر يومها أنَّ صلاح حسن قد قرأ قصيدة بعنوان «الطوطم» وقد أثارت الكثير من الامتعاض لدى شعراء الحرب، لأنَّ القصيدة كانت نثرية وبها تورية مقصودة؛ وكان احتجاج الكواز عليها واضحاً برغم براءته، إذْ كانت قصيدة النثر تعاني من الازدراء لدى الوسط الثقافي آنذاك. بعدها تمت دعوتنا للنادي العمالي في الديوانية؛ وفي المائدة التي ضمَّتْ الشاعر كاظم خبط وجبار صمير وهما شاعران شعبيان لهما القدح المُعلَّى في المدينة؛ وسعد جاسم وهاشم معتوق وفاضل عزيز والكوَّاز والصالحي وكاتب هذه السيرة التي لا تنتهي. كان الندى يضيء عشب الحديقة عندما بدأ كاظم خبط بقراءة قصيدة السلطان وبصوت مشبع بالشجن الفراتي؛ ماهي إلاَّ دقائق حتى اخترق مائدتنا بدون أي استئذان شخص غريب بملامحهِ؛ وبشعر رمادي أكرت، لكن حضوره أمام أنظارنا ترك الجميع بصمت حذر، أذكر أنَّهُ عانق كاظم خبط وتمتم بكلمات لم يفهمها سوى الملائكة؛ ولأني كنت حديث عهد على كهذا مشاهد غير مألوفة؛ فقد أثار انتباهي ذلك الشخص بثيابه المتواضعة؛ كأنَّهُ مشرَّد يبحث عن ملاذٍ يهجع فيه. ثمَّ استطلع الوجوه ونبس بكلمات واخزة لتقريعنا؛ كانت كافية لطمس كل غلواء كان يتمتع به الشعراء في تلك الجلسة وتركنا والطير فوق رؤوسنا. وحين عدت إلى جبهة الحرب قرأت مقالاً لشكر حاجم الصالحي في جريدة الثورة عن تلك الأمسية، ومن سطور ذلك المقال عرفت أنَّ ذلك الكائن الغريب يُدعى كزار حنتوش. لا أدري أية قوة سحرية جذبتني لذلك الكائن، بل صرت أعدُّ الأيام حتى ألتقيه والحرب كانت في أوج اشتعالها، ثم علمتُ أثناء نزولي في إجازة أنَّ أمسية تأبين أقيمت في كربلاء لصاحب الشاهر لوفاته بحادث مروري قد حضرها الحنتوش؛ وكم تمنيت أنْ أكون حاضراً فيها للجلوس معهُ. أخذتني الحرب بمواجعها وهلعها حتى عام 1987 حيث ملتقى تموز الشعري؛ وكانت ضيافة الشعراء حينها في فندق الشيراتون؛ وصادف أنَّ الغرفة التي كانت بجوار غرفتي هي للشاعر كزار حنتوش مع الشاعر منذر عبد الحر. كان كزار قد جلب معه كل صعاليك الديوانية للمبيت معهُ في الغرفة؛ وكانت رائحة ابنة الكروم تفوح منها وتنتشر في رواق الطابق السابع بشكل لافت. حتى أذكر أنَّ عاملات الخدمة في ذلك الطابق كنّ يضعن المناشف على أنوفهن لتفادي استنشاق تلك الرائحة الحادة، الأمر الذي وصل إلى إدارة الفندق بشكوى عن تلك الغرفة المشبوهة؛ لكن بعض الشعراء أعطونا تطمينات مفادها أنَّ لؤي حقي المشرف على المهرجان ورئيس منتدى الأدباء الشباب في ذلك الوقت تجاهل تلك الشكوى وقال لإدارة الفندق دعهم ينطلقون فبعد أيام سيعودون إلى جبهة الحرب. بينما حرصت على التواجد بالقرب من كزار ونسيت أمر غرفتي تماماً. كان المهرجان قد بدأ بالقراءات الشعرية في قاعة ابن النديم القريبة من المكتبة المركزية غير أنَّ الحنتوش لم يبرح الغرفة مطلقاً؛ ولم يهبط إلى المطعم الفاخر في الطابق الأرضي لتناول أي وجبة طعام، إذْ اعتكف في غرفته وكلما حثَّه أترابه الصعاليك لتناول وجبة طعام؛ كان يرد عليهم اجلبوا لي معكم قطعة خبز وحبَّة طماطم لتغيير مذاق فمي؛ هذا كل ما أريده منكم. بالوقت الذي نزلت لتناول وجبة الغداء بعد أنْ أنهكني الجوع نتيجة احتساء ابنة الكروم على معدة فارغة، لقد شعرتُ بآدميتي التي فقدتها في جبهة الحرب عندما وصلت إلى المطعم؛ إذْ كانت هناك فتاة حسناء بثياب أنيقة تقف عند بوابته وتهدي ابتسامة عذبة لكل من يدخل لتناول الطعام؛ حين ابتسمت لي تمنيت لو عانقتها؛ بينما صدمتني بوفية المأكولات المفتوحة والتي احتوت على ما لذَّ وطاب؛ وتذكرت جوع كزار؛ لذا حرصت على حمل بيضتين مسلوقتين في جيبي عندما غادرت المكان، حين دخلت إلى غرفته وضعت البيضتين أمامه؛ فنظر إلى وجهي بإعجاب قائلاً:
- ما أروع قلبك؛ أنت صديقي الحبيب من الآن.
في اليوم الثالث أبلغته إدارة المهرجان أنَّ قراءة قصيدته بعد ساعتين في قاعة ابن النديم؛ لكنه أبى الذهاب إلى هناك؛ مما اضطر أترابه الصعاليك لرفعه عنوة من السرير وأخذوه إلى القاعة؛ وفي غفلة من الجميع أخذ بيدي وتملَّص عن المكان إلى حانة في ساحة الميدان؛ ولم يقرأ في ذلك المهرجان؛ بالوقت الذي كان هناك شعراء يمسحون الأكتاف بكل ما ملكوا من تملق كي يظفروا بقراءة نصوصهم على المنصَّة.