الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العافية

بواسطة azzaman

العافية

وفاء الفتلاوي

 

في غرفة ضيقة داخل مستشفى للعزل في أطراف بغداد كانت الأنفاس تتسابق مع عقارب الساعة وصمت عجيب داخل اروقة الردهات هناك يرقد محمد شاب لم يتجاوز الأربعين اختلط بياض الشيب بلون شعره الأسود فرسم على رأسه لوحة غريبة بخطوط متكسرة كأنها خطت على ورق قديم على سرير أبيض بوجه شاحب الملامح كان يتشبث بالحياة كما لو أنها حبل يوشك أن ينقطع. كان محمد يتذكر قبل سنوات قليلة، كيف كان يملأ البيت بضحكاته. وحواره مع زوجته الراحلة ذات العيون الناعسة حول أحلامهما البسيطة «نريد نسافر ونشوف الدنيا مع أولادنا ونشتري بيت»، أحلام لم تكن تتجاوز حدود الواقع بل كانت ترتكز على الحب والأمل.  يتذكر كيف كان يحمل ابنته الكبرى «مريم» على كتفه ويجري في الحديقة وكيف كان يضحك على محاولات «جاسم» الأولى لنطق كلمة «بابا» وعناد ابنه الاصغر يوسف كانت تلك اللحظات هي كل ثروته. محمد الذي لم يحلم بثراء ولا بجاه كان كل ما يتمناه أن يرى أبناءه الثلاثة يكبرون أمام عينيه وفي كنف والدته المثقلة بالاحزان بهد فقدان ابنها البكر، وأن يرافق خطواتهم الأولى نحو المدرسة ويضحك على مشاكساتهم الصغيرة ويملأ بيته ببهجة أصواتهم وضحكاتهم.

مأساة محمد الكبرى بدأت منذ اكثر من ثلاث سنوات حينما رحل شقيقه الاكبر ثم تركته زوجته ورحلت حملت روحها إلى السماء وبقي هو مع أولاده وأمه العجوز. لم يكن الوجع وجع جسد فقط، بل وجع قلب أثقلته الفقدانات تركت له تركة كبيرة، لكن المال لم يرمم الفراغ ولم يرد الدفء إلى البيت. أمه تلك السيدة التي دفنت زوجها وابنها قبله كانت تجلس إلى جواره كظل لا يفارقه. يديها المرتجفتان تمسحان عرقه وعيناها تتضرعان للسماء وتردد: «اللهم لا تذوقني مرارة الفقد مرة أخرى واجبر خاطري بشفائه»؛ لكنها كانت تعلم في أعماقها أن الموت يزحف نحوه ببطء. الأطباء يتهامسون والأجهزة تصدر أصواتًا باردة لكنه رغم كل شيء كان محمد يبتسم كلما شاهد أطفاله الثلاثة في اتصال فيديوي. يرفع يده الضعيفة ليمسح دموعهم على شاشة مصغرة ويقول بصوت متقطع: «بابا قوي وباقي وياكم كم يوم وارجعلكم»، لم يكن يقاتل من أجل نفسه بل من أجلهم. شهران من النزاع من التمسك بخيط حياة واهٍ وفي النهاية حين أغمض عينيه بدا وكأنه يسلّم روحه مطمئناً، لقد قاتل حتى اللحظة الأخيرة؛ لكنه خسر أمام الموت الذي لم يرحم توسلات أم ولا دموع أطفال. رحل تاركاً حكاية تروى عن أبٍ قاوم المرض بروح محارب وعن أمٍ أنهكها الحزن وعن ثلاثة صغار وجدوا أنفسهم في مواجهة الدنيا بلا سند. فلم يكن مجرد رحيل بل جرح مفتوح في قلب عائلة وصرخة مكتومة في ليلٍ طويل.. ربما لا يكون رحيله مجرد نهاية بل بداية جديدة لحياة مليئة بالتحديات لهؤلاء الصغار المثقلين بالغياب والفقد.

 

 

 

 

 


مشاهدات 46
الكاتب وفاء الفتلاوي
أضيف 2025/09/17 - 2:22 PM
آخر تحديث 2025/09/18 - 3:58 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 540 الشهر 12852 الكلي 12030725
الوقت الآن
الخميس 2025/9/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير