الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التريند يأكل الحقيقة

بواسطة azzaman

التريند يأكل الحقيقة

فاتن يوسف

 

لم يعد المشهد الإعلامي كما كان في السابق. فبعد أن كان الصحفيون يعتمدون على الصحافة الورقية أو شاشات التلفاز كمنصات أساسية لنقل الأخبار وتحليل القضايا العامة والتعبير عن المواقف تجاه مختلف الملفات، اقتحمت شبكات التواصل الاجتماعي الساحة الإعلامية بقوة، لتغيّر قواعد اللعبة تماماً وتتحول إلى ميدان رئيسي للتنافس على الظهور والشهرة. وهنا وجد الصحفيون وكتّاب المحتوى أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الالتزام بنقل الأخبار بصدق وشفافية بعد التحقق من صحتها، حتى وإن تأخر النشر وخسروا السبق الإعلامي، أو الانجرار وراء ما يفرضه «التريند» من أخبار عاجلة وتفاصيل مثيرة قد تفتقر إلى الدقة والمهنية، لكنها تضمن نسب مشاهدة مرتفعة وانتشاراً واسعاً.

في ظل هذه المنافسة حامية الوطيس، برزت ظاهرة لافتة تمثلت بلجوء بعض الصحفيين وصنّاع المحتوى إلى تبني أخبار غير مؤكدة أو الترويج لمعلومات أولية دون تحقق، وذلك بهدف حصد أكبر عدد من المشاهدات والتفاعلات. هذه الظاهرة لم تعد مجرد سلوك فردي، بل تحولت إلى ممارسة شائعة في أوساط الإعلام الجديد، حيث يختلط الخبر العاجل بالمعلومة المضللة، ويذوب الخط الفاصل بين الصحافة الرصينة والمحتوى الدعائي.

إن الرغبة في تحقيق الانتشار السريع تدفع الكثيرين إلى تقديم «السبق» على حساب «التحقق». وهنا تتجلى الإشكالية الكبرى: فالصحافة في جوهرها تقوم على مبادئ التوثيق، التدقيق، والسعي وراء الحقيقة، بينما «صحافة التريند» تقوم على الجذب اللحظي وردود الفعل العاطفية للجمهور بعيداً عن المصداقية والموضوعية، وهنا تكمن خطورتها، لأنها تتسبب في تسطيح مهمة الصحفي وعدم احترام عقل الجمهور.

خطورة هذا السلوك تبرز في قضايا رأي عام حساسة – مثل ملفات الفساد، قضايا العنف، أو المظاهرات الشعبية حين تُنشر أخبار غير دقيقة أو شائعات قد تؤثر على سمعة أصحاب القضية وتنعكس على سير التحقيقات الرسمية، وتشوّش على الرأي العام، وتضعف ثقة الجمهور بالصحافة ككل. كثيراً ما شهدنا في العراق قضايا يُثار حولها زخم هائل على السوشيال ميديا، لكن بعد أيام يتضح أن جزءاً كبيراً مما تم تداوله كان مبنياً على معلومات ناقصة أو مغلوطة، هدف مرويجيها جذب أكبر نسبة مشاهدة وتصدر التريند.

هذه الفوضى الإعلامية لا تضرب فقط مصداقية الصحفي بل تمس صورة الإعلام بأكمله أمام جمهوره، فإذا أصبح المتلقي يتوقع أن الأخبار المنشورة هدفها فقط كسب المتابعين فإن ذلك يُفقد الصحافة أهم رأسمالها وهي الثقة.

توجه الصحفيين إلى صعود التريند لم يأتي من فراغ، فهو يخضع إلى قائمة طويلة من الأسباب أبرزها الضغط الاقتصادي وتراجع الدعم للمؤسسات الإعلامية التقليدية والواسطة والمحسوبيات التي سيطرت على سوق الإعلام، فأصبح الصحفي يرى نفسه عاطلاً عن العمل رغم خبرته الكبيرة، في وقت يحصل آخر لا يملك الخبرة على أفضل الفرص، فتبدأ أخلاقيات المهنة بالانهيار ويتجه الصحفي إلى البحث عن بدائل مادية ومهنية عبر المنصات الرقمية، حيث تُترجم المشاهدات العالية إلى مردود مالي مباشر، السبب الثاني هو تغيّر سلوك الجمهور خاصة فئة الشباب، الذين أصبحوا أكثر ميلاً إلى استهلاك الأخبار السريعة والقصيرة عبر «فيسبوك» و»تيك توك» و»إكس» (تويتر سابقاً)، ما يدفع الصحفيين إلى مجاراته خوفاً من فقدان المتابعة والتأثير، وغيرها من الأسباب التي غيرت شكل الصحافة بشكل كامل وتسببت بتفشي ظاهرة «صحافة التريند».

المعضلة بين «صحافة الرأي العام» و»صحافة التريند» ليست مجرد صراع بين مدرستين إعلاميتين، بل هي انعكاس لتحولات أعمق في طبيعة الإعلام والمجتمع، وإذا لن يُحسم هذا الصراع لصالح الصحافة الرصينة، فقد نجد أنفسنا أمام مشهد إعلامي لا ثقة ولا تأثير، حيث يعلو صوت «التريند» بينما تضيع الحقيقة في زحام الخوارزميات.

 


مشاهدات 80
الكاتب فاتن يوسف
أضيف 2025/09/07 - 2:56 PM
آخر تحديث 2025/09/11 - 10:21 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 313 الشهر 7609 الكلي 11925482
الوقت الآن
الخميس 2025/9/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير