الدكتور عدنان العوادي.. حكمة الأكاديمي وروح الأديب
محمد علي محيي الدين
في بابل، حيث تنام الحضارة على ضفاف الفرات وتنهض في أفق الحرف والمعنى، وُلد الدكتور عدنان حسين العوادي، ليكون أحد أولئك الذين نذروا العمر للعلم والكلمة، فارتقى باسمه إلى مصاف الأعلام الذين لا تُخطئهم الذاكرة الثقافية في العراق والعالم العربي. لم يكن مجرد أستاذ جامعي يؤدي واجبه، بل كان صاحب رسالة، نسج خيوطها من شغف البحث، وإيمان عميق بأن المعرفة لا تكتمل إلا حين تُضاء بوعي نقدي وبصيرة تستنطق النص وتستنفر العقل.
ولد العوادي في قرية "جميعات" القريبة من الحلة عام 1942، ومنذ دراسته الأولى برز نبوغه، فكان الأول على دفعته في الفرع الأدبي عام 1961، وما لبث أن تخرج من كلية التربية بجامعة بغداد بدرجة شرف عام 1964، إيذانًا ببداية مسيرة أكاديمية حافلة لا تعرف الفتور. انتقل بعدها إلى دراسات عليا أثبت فيها تفرّده، فقد نال الماجستير بأطروحة عن "الشعر الصوفي حتى أفول مدرسة بغداد وظهور الغزالي"، ثم الدكتوراه بدرجة امتياز عن "لغة الشعر الحديث في العراق"، وهي أطروحة رأت فيها الدولة ما يستحق الطباعة والنشر على نفقتها.
لم تكن الوظيفة عند الدكتور العوادي غاية، بل وسيلة لتحقيق مشروعه الثقافي. عمل في التعليم، والإدارة التربوية، ثم انطلق في فضاء التعليم العالي أستاذًا في كلية الفقه، ثم الآداب، والدراسات الإسلامية، والتربية، حيث خرّج أجيالًا من الطلبة، وأشرف على رسائل وأطاريح أكاديمية لا تُحصى. ولم يكن حضوره محصورًا في الصف الدراسي، بل تعدّاه إلى المنتديات والمؤتمرات والندوات، مشاركًا، ومحكّمًا، ومؤسسًا، كما في ندوة "عشتار" الأدبية، التي ترأسها عام 1973 مع نخبة من أدباء بابل.
أحبّ طلبته أسلوبه المتوازن بين النظرية والتطبيق، بين التحليل الصارم والذوق الأدبي، فكان مصدر إلهام لهم، ومرشدًا لمن أراد أن يخوض غمار البحث بلا تكلّف ولا تهويمات. ولعلّ أعماله العلمية والأدبية خير شاهد على ذلك؛ فقد كتب في الأدب، والنقد، والتاريخ الثقافي، وكان لكتابه عن الشعر الصوفي، وكتابه الآخر عن لغة الشعر الحديث في العراق، أثرٌ بالغ في تجسيد رؤيته النقدية الأصيلة.
لم يكن غريبًا أن تُحتفى به الأوساط الثقافية والأكاديمية؛ فإلى جانب عضويته في لجان التقييم والترقيات الجامعية، اختير ضمن الهيئة الاستشارية لمجلة "الأديب العراقي"، ومثّل العراق في مهرجانات ومؤتمرات عربية مثل مهرجان الشباب العربي في الجزائر عام 1973، وملتقى السياب في البصرة، وندوة النقد في الموصل، وغيرها من المحافل التي نُظر فيها إليه بوصفه صوتًا علميًا رصينًا لا يهادن في الرأي، ولا يتنازل عن معايير المعرفة الحقة.
لم يكن الدكتور عدنان العوادي ناقدًا وحسب، بل كان شاعرًا، وإن لم تُنشر مجموعته بعد، إلا أن طيف الشعر ظلّ يسكنه، ويظهر أثره في لغته وتحليله وتذوقه للنصوص، وهو ما جعل الدارسين يعودون إليه بوصفه من أهم الأصوات النقدية في دراسة الشعر الحديث. صدرت عنه دراسات ورسائل جامعية تُبرز مكانته، منها: "عدنان العوادي في أفق الأدب" للدكتور سعيد عدنان، ورسالة ماجستير بعنوان "قراءة الشعر الحديث عند الدكتور عدنان حسين العوادي"، فضلاً عن بحوث نقدية تناولت إسهاماته في قراءة الشعر العراقي المعاصر.
نال الدكتور العوادي تكريمات لا تُعد، من جامعات ومؤسسات ثقافية، ومن وزارات ومجالس، لكنه بقي متواضعًا، قريبًا من طلبته وزملائه، منشغلًا بسؤال الكلمة وقلق الحقيقة. وحتى حين تولّى عمادة كلية الآداب في جامعة بابل عام 2004، لم يغيره المنصب، بل زاد من حضوره العلمي والإداري الفاعل حتى أعفي عام 2010، وأُحيل إلى التقاعد في نهاية 2011، لكنه لم يتقاعد من البحث والإبداع.
إن سيرة الدكتور عدنان العوادي ليست مجرد قائمة من المناصب والمؤلفات، بل هي قصة رجل آمن بأن الثقافة هي حجر الزاوية في بناء الأوطان، وأن الأستاذ الحقيقي هو من يزرع في طلابه روح التساؤل، لا الرضى بالجاهز والموروث فقط. في شخصه تآلفت الحكمة الأكاديمية مع رهافة الحس الأدبي، لتظل ذكراه وأعماله منارة لمن أراد أن يسير في درب المعرفة بشرف واستقامة.
سيظل الدكتور عدنان العوادي حاضرًا في ذاكرة طلابه، وفي صفحات النقد، وفي ضمائر المثقفين، لا لأنه فقط كتب وألّف، بل لأنه مثّل نموذجًا نادرًا للباحث الذي يرى في الكلمة مسؤولية وفي الفكر رسالة لا تنطفئ.