الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السلبية المجتمعية

بواسطة azzaman

السلبية المجتمعية

منتصر صباح الحسناوي

 

كان ذلك عند حافةِ الجسر، حين ترجلَّ شابٌ يافعٌ ووقف مطوّلاً يُحدّق في صفحة الماء.  دقائقٌ فقط فصلت بين احتمال الغياب الأبدي، ويدٍ امتدّت من قاربٍ للشرطة النهرية وانتشلتهُ من بين أنياب التيه.

هذا المشهدُ الذي بدا كحادثٍ عابر على صفحات الأخبار، ظلّ يرنُّ في رأسي طوال النهار وفتح باباً لتساؤلٍ عميق: ما الذي يدفعُ شاباً في مقتبل العمر إلى هذا القرار المأساوي؟

وكيف غابت عن محيطه كل إشارات الاستغاثة؟

الانتحارُ تعدَّى ظاهرةَ الندرة هو الآن يقترب من تفاصيلنا ويتسرّب إلى البيوت ويمرّ قربَ أبوابِ المدارس، ويُثقل أحاديث المقاهي والدوائر والجامعات.

والأخطر من ذلك اتّساع أسبابه ، اذ لم تعد محصورةً في فشلٍ دراسي أو ضائقةٍ مالية أو مشكلةٍ عاطفيةٍ وضغطٍ نفسي، بات الأمر شعوراً مزمناً باللاجدوى والاحباط والإلغاء وعقائد جديدة تعززُ ذلك… حتى كلماتنا التي تكون أحياناً كالسكاكين التي لا تُرى.

السلبيةُ التي تملأُ الجو، وتحيطُ بكلِ زاويةٍ من زوايا حياتنا هي عدوى باردة، تزرعُ الحزن في القلوب، وتُربك بوصلة الأمل.

نُهوّل المشاكل، ونُعيد تدويرها في كل مجلس، ونملأ الأحاديث بتعبيرات من قبيل: « القادم أسوء « ، “ماكو فايدة”، “الدنيا خربانة”، “العراق انتهى”، والقاموس يطول ….. وبها نُغرِق أنفسنا والآخرين في بحرٍ من العجز.

قد نحتمل وقع تلك الجُمَل نحن الذين نملك توازناً نسبياً، لكن ماذا عن أولئك الذين يقفون على الحافة؟

ضغط أسري

ماذا عن التائهين في زوايا اليأس، المتعَبين من تكرار الخذلان؟

إنّ بعضَ الكلماتِ تُقال في غفلة، لكن وقعها لا يُمحى، المراهق الذي يشعرُ بأنه عبءٌ والخرّيج الذي لا يجد عملاً، والطالبة التي تواجه ضغطاً أسرياً، والشاب الذي لم يُحتَضن فشله، جميعهم يسمعون ما يُقال حولهم، ويُفسّرونه بما يوافق جراحهم.

 “كلشي ما يتغيّر”، “أنت ليش بعدك تحاول؟”، “البلد ما يستاهل”… جُمَل تنهشُ آخرَ قلاع الصبر لدى من يصارع بصمت.

ووسط هذا السواد العام، يغيبُ عنّا أن بعض المشكلات لا تُحل بطرحها في الحديث بقدر ما تُحل بالشروع في معالجتها، لا مانع من أن ننتقد لكنَّ من الجميل أن نطرح الحلول والأجمل من ذلك أن نكون جزءاً من الحّل.

حين نقول إن هناك أزمة في الماء، يكون جميلاً أن نتحدث عنها ونتثقّف على الترشيد، ومن الأجمل أن نُطفئ الصنبور جيداً بعد غسل أيدينا.

أن نرى مشكلة البطالة، ونبادر لتثقيف شاب على مهنة أو نفتح له باب تجربة. أن ننتقد الواقع الصحي، ونحمل الدواءَ لمريض من أقاربنا دون تذمّر.

 فالكلام لا يعوّض الفعل، ولا يصلح الخلل إن لم يبدأ بإيمانٍ حقيقي بإمكانية إصلاحه.

وليس الحديث عن الانتحار هو مربط المقال وحده، إنما عن بيئةٍ عامة، تسودُ فيها النبرة السوداوية، ويقلُّ فيها التفاؤل المتّزن.

بيئةٌ تضعف فيها المبادرات الإيجابية، وتُهاجم كل محاولات النهوض، وتُحتقَر فيها فكرة “البداية من جديد”.

هذا الجو، في ظل الواقع البيئي والمشكلات من حولنا وغياب الدعم النفسي المؤسسي يتحوّل إلى مستنقع لا يتنفّس فيه أحد.

قد لا نملك حلولاً سحرية لكل أزمات المجتمع، لكننا نملك الكلمة. والكلمة، حين تُقال بوعي، تكون ضوءاً في العتمة.

وعندما نُحسن الحديث، نُحسن العزاء للمجروحين الذين لم يصرّحوا بما فيهم، وحتى النقد حين يُقال بروحٍ راعية، يُرمم ولا يهدم.

الفرق كلّه قد يكون في النبرة، والتوقيت، والنية.

إننا لا نُطالب بتزييف الواقع، ولا بتوزيع أوهام وردية لكننا نأمل نوعاً من الإدراك لأثرِ ما نقول، وأن يكون خطابنا العام أكثرَ مسؤولية.

فالتعبير عن الألم مشروع، لكنَّ غيابَ الأمل لا ينبغي أن يكون مشاعاً. وربما، في لحظة من اللحظات، تكون جملة واحدة سبباً في بقاء أحدهم… أو رحيله.

والكلام هناك لنا كأفراد والأهم للمؤثرين الذين يركبون موجة التكنلوجيا في مساحات التواصل والإعلام ليكونوا عقلاً جمعيا

الكلمة الطيبة لا تُصلح العالم، لكنها تُعيد قلباً إلى مكانه، وهذا، في بعض الأحيان، يكفي تماماً.

 

 

 


مشاهدات 200
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/07/30 - 2:08 AM
آخر تحديث 2025/07/30 - 9:59 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 763 الشهر 20760 الكلي 11174372
الوقت الآن
الأربعاء 2025/7/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير