الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الاحتضار الواعي ومرويات العائدين من عتبة الموت

بواسطة azzaman

هل هناك حياة بعد الموت؟

الاحتضار الواعي ومرويات العائدين من عتبة الموت

ريموند تاليس

ترجمة: رمضان مهلهل

 

كان للتطورات الهائلة في مجال الرعاية الطبية الطارئة منذ إدخال الأساليب الحديثة للإنعاش القلبي الرئوي في أواخر خمسينيات القرن الماضي عواقب غير متوقعة. فعلى أبسط المستويات، لم يعد من الواضح متى تنتهي الحياة. فالحدود الفاصلة بين الحياة والموت، التي كانت تُرسَم بوضوح استناداً إلى معايير بايولوجية مثل الفشل التنفسي وتوقف القلب وموت الدماغ، أصبحت غير واضحة. لقد أصبح الموت «منطقة رمادية»، والعديد من الحالات التي كان يُعتقَد في السابق بأنها غير قابلة للشفاء لم تعد كذلك. إذ تستمر الوظائف البايولوجية، وتحتفظ الأعضاء بقدرتها على التعافي، لساعات أو حتى أيام بعد التخلي عن محاولات الإنعاش. وفي بعض الحالات، قد تظهر مؤشرات فيسيولوجية عصبية على وجود حالات وعي متقدمة حتى بعد أن يكون نشاط الدماغ بالكامل قد توقف.  

سام بارنيا، طبيب بارز في مجال رعاية الحالات الحرجة، أمضى أكثر من ثلاثين عاماً في البحث والتأمل في هذه الملاحظات. ويُعدّ كتابه «الاحتضار الواعي» Lucid Dying، الصادر عام 2024، خلاصة لجهوده. يركّز فيه بشكل رئيسي على الروايات التي ينقلها المرضى حول تجارب خاضوها في «المنطقة الرمادية».  

انفصال جسدي

يُقدّم العديد من المرضى روايات دقيقة بشكل مُفاجئ عمّا حدث أثناء الإنعاش، على سبيل المثال، استذكارهم لما قاله الطاقم الطبي وخضوعهم لإجراءات مثل إزالة الرجفان القلبي، ممّا يوحي بأنهم شهدوا الأحداث من منظور علوي، كما لو كانوا غير مُقيّدين بأجسادهم. ويُفيد البعض بشعور بالانفصال الجسدي، وانعدام الوزن، مصحوباً بسعادة غامرة، وإحساس عميق بالسلام، بل وحتى شعور بالعودة إلى «البيت»، إلى مكان مثاليّ مفقود. وكما أفاد أحدُهم قائلاً: «كنتُ مُجرّد مُراقب غير مُبالٍ. ظننتُ في نفسي بأنني لا بدّ أن أكون قد مُتّ، لكنني لم أكن حزيناً على الإطلاق». ويتحدّث العديد من الناجين عن عدم رغبتهم في العودة إلى الحياة

هناك جانبان مثيران للغاية لتجارب الاقتراب من الموت، أو ما يُعرف بـ «استرجاع تجارب الموت». الأول هو الشعور بالوصول إلى أبعاد جديدة من الواقع، والدخول في حالة من «فرط الوعي» الشاسع. فبغض النظر عما يحدث لهم من منظور العالم الخارجي – من محاليل، وأجهزة التنفس الاصطناعي، وتدليك القلب، وإزالة الرجفان، وغيرها من الإجراءات الطبية التي تبدو مؤلمة – يدخل المرضى في حالة من الهدوء الذي لا يمكن تفسيره. ويبدو اتساع الوعي هنا وكأنه تحرر، نعم تحرر من الجسد. وفي بعض الحالات، يتبع الإنعاشَ الناجح مشاعرُ من البهجة والإيجابية والثقة – وهي مشاعر لا يُتوقّع عادةً أن ترافق مَن مَرّ بتجربة قريبة من الموت.  

من السمات الأكثر لفتاً للانتباه في تجارب الاقتراب من الموت ما يُعرف بـ «مراجعة الحياة»: «جميع ذكرياتك وأفكارك ونواياك وأفعالك تجاه الآخرين، منذ الطفولة المبكرة وحتى الموت، لا تُعاش كمجرد ومضات عابرة، بل كتقييم عميق وهادف لحياتك بأكملها». ويبدو بأن التوسع الهائل في النطاق الإدراكي يُمكّن المرء من استعادة أفعاله الماضية من وجهة نظر مَن تأثروا بها، والحكم عليها من منظور أخلاقي حقيقي. وقد يرتبط هذا بالشعور بالنشوة والسعادة، أو بالخجل والإحراج والإذلال والعذاب.

إن ملاحظات كهذه هي التي تُعزز استنتاج بارنيا القائل بأنه «فقط عند الموت نتعلم حقاً كيف نعيش»، وتُؤكد [هذه الملاحظات] على أهمية التجارب التي يرويها أولئك الذين عادوا من حافة الموت. فتجربة رؤية أنفسهم من خلال عيون الآخرين تُحوّل البقاء إلى فرصة للعيش بشكل أفضل. يقول بارنيا: «لا أحد يعود من المنطقة الرمادية مُصمِّماً على تجديد سيارته، أو شراء منزل أكبر، أو تجديد خزانة ملابسه، أو نادماً على فقدان ترقية وظيفية. بل يعودون مُصمِّمين على العيش ببساطة من أجل هدف أسمى». ماذا عسانا نفعل بهذه التقارير؟ ثمة تفسير محبِط جاهز، وهو أن هذه التجارب ليست سوى نتاجٍ لنشاط دماغيّ غير طبيعي، يمكن مقارنتها بالأحلام والهلوسات، وبالتالي فهي عديم الأهمية مثلها. ومع ذلك، سيكون من الواضح بأن الحدس المُنظَّم للغاية لانفصال الوعي عن الذات، الذي يشعر به المرء كتحررٍ من الجسد، المُقترن بوضوحٍ في التفكير وصفاءٍ في الاستنتاج، يدفع المرء إلى مراجعة شاملة للحياة وإصدار حكمٍ أخلاقيٍّ على النفس، ليس من قبيل ما تُبنى عليه الأحلام (وحالات الوعي المَرَضية).  

إن التردد في إضفاء دلالة عميقة، بل وحتى ميتافيزيقية، على تجارب الاقتراب من الموت يتجلى في حالة الفيلسوف التجريبي والملحد المتشدد أ. ج. آير. فوفقاً لكاتب سيرته الذاتية، بِين روجرز، أثناء إنعاش آير من سكتة قلبية استمرت لبضع دقائق، واجه ضوءاً أحمر فَهِمَ بأنه مسؤول عن إدارة الكون. وعندما استيقظ، كان سعيداً في البداية بالإبلاغ عن ذلك كدليل على أن الموت لا يُنهي الوعي، وأنه أصبح «أكثر تأرجحاً» بشأن وجود حياة بعد الموت. لكنه، بعد ذلك بوقت قصير، وبعد أن شعر بالإحراج من الاهتمام الإعلامي الذي أثارته قصته، أنكر بأن يكون لقاؤه بأسياد الكون قد أضعف عدم إيمانه بالحياة بعد الموت، أو دفعه إلى التشكيك في إلحاده. وقد فسّر تلك التجربة على أنها «حلم فيلسوف»، حصلَ لأن العقل أو الدماغ لا يتوقفان بالضرورة عن العمل بمجرد توقّف القلب.

توثيق تجارب

وكل هذا يجعل التزام بارنيا الدائم بتوثيق تجارب الاقتراب من الموت، والبحث فيها، ومحاولة فهمها أمراً مثيراً للإعجاب حقاً. فلا شك أن العديد من زملائه، في قسم الطوارئ وفي الأوساط الطبية عموماً، قد شعروا بالحيرة، وربما حتى بالازدراء، بالتزامه بمحاولة فهم ما حدث للعديد من مرضاهم في رحلة قصيرة على حافة الحياة، أو ما بعدها. إن رفض هذه التجارب باعتبارها «مجرد» أحلام وهلوسات، ناتجة عن نشاط دماغي غير طبيعي أو مطابقة له.

يطرح على أقل تقدير سؤالاً جوهرياً وهو: كيف يمكن لنشاط الدماغ المَرَضي أن يفتح الباب أمام عوالم غريبة دخلناها لفترة وجيزة، ولكن لا تُنسى، بينما نحن نقترب من الموت، ثم نُنتزَع منه؟

يُطارد هذا السؤالَ لغزٌ آخر، أعمق، استكشفه بارنيا أيضاً: كيف يمكن، في حياتنا اليومية، أن تُستخرَج الذوات والعوالم من النشاط العصبي؟ هل الواقع رباعي الأبعاد أم مجرد عالَمٌ مصطنَع فرضَه الدماغ على تجاربنا؟ هل يشبه الوعي البشري مجالاً من الطاقة المرتبط بالجسد والدماغ، بدلاً من أن يكون شيئاً ناتجاً عنهما؟ ربما ينبغي لنا أن نتساءل عن صحة الاعتقاد بأن وجودنا ليس سوى «وميض عابر يسبق الفناء الأبدي». 

يجمع المؤلف بين دقة البحث العلمي (إذ يستشهد بمئات المراجع العلمية) وجرأة التأمل والحدس، ولكن قد يبدو للبعض بأن الفجوة بين طريقة تفكيرنا التقليدية وفهمنا المختلف تماماً للواقع واسعة جداً بحيث لا يمكن تجاوزها بقاعدة بيانات تجريبية غير منتظمة، مهما كانت مقنعة، تتكون من شهادات مرضى عادوا من المنطقة الرمادية. ومع ذلك، فإن تعامل المؤلف باحترام مع مثل هذه التقارير يُعدّ ديمقراطية مرحَّب بها. فهو يتحدى السلطة الخاصة المنسوبة تقليدياً إلى الأنبياء والكهنة وأصحاب الرؤى المحترفين من جهة، ومن جهة أخرى إلى العلماء الذين هيمنوا مؤخراً على المروية التي تخبرنا عن ماهية الكائنات التي نحن عليها، وما قد يحدث لنا، إن حدث شيء أصلاً، بعد رحيلنا عن هذا العالم.

هذا الاحترام لشهادات الناس العاديين هو أمر في محله تماماً: فجميعنا متساوون في هذه المسألة. وإذا بدت مصادر الشهادات عرضية نوعاً ما – بحيث تتكشّف الحقائق الأكثر أهمية عن طبيعتنا من خلال تجارب الاقتراب من الموت – فإن هذا لا يختلف كثيراً عن طبيعة وصولنا إلى المعرفة عموماً. ولعل رحلة عبر وادي ظل الموت ليست بالضرورة أقل أهمية من أفواه الأنبياء، فهي بمثابة مصدر إلهام مؤقت يمنحنا الوصول إلى الحقيقة الجوهرية

إن كتاب «الاحتضار الواعي» هو تقرير مُحفِّز للفكر، وإن كان مُقلِقاً في بعض الأحيان، عن رحلة بحث طويلة لطبيب جدير بالإعجاب، قضى ساعات طويلة في القيام بشيء لا يُجيده سوى قلة من الأطباء ألا وهو: الإنصات إلى مرضاه. حتى لو لم يقتنع القارئ بأنَّ مُكوثاً قصيراً مع الموت قد يفتح ثغرات في سجن الوعي المعرفي اليومي، فإنَّ الكتاب يُذكِّرنا بعجزنا المُطلق، ويحمل رسالة أخلاقية تصمد أمام التدقيق المُتشكِّك. إنه انتصارٌ للعقل والأخلاق والإنسانية. وإذا دخل الكاتب سام بارنيا يوماً ما المنطقة الرمادية التي أمضى جزءاً كبيراً من حياته في استكشافها، فأنا على ثقةٍ بأنَّ مراجعة حياته ستُعطيه تقريراً جيداً.

 

عن ملحق التايمز الأدبي، 30-5-2025.

 


مشاهدات 88
الكاتب ريموند تاليس
أضيف 2025/07/26 - 1:28 AM
آخر تحديث 2025/07/26 - 2:08 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 469 الشهر 17323 الكلي 11170935
الوقت الآن
السبت 2025/7/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير