العرب .. قبل الربيع العربي وبعده
كامل الدليمي
لم يكن الربيع العربي حدثاً عابراً في التاريخ الحديث، بل زلزالاً سياسياً واجتماعياً أعاد تشكيل الخريطة العربية والإسلامية من جديد. ففي لحظة غاضبة، انهارت أنظمة حكم استبدّت بالشعوب لعقود طويلة، وفتحت أبواب الأمل أمام الملايين الذين حلموا بالتغيير والحرية والعدالة. لكن هذه اللحظة التي بدت في بدايتها مبشّرة تحولت سريعاً إلى فوضى عارمة، ليس فقط لأنها أطاحت بالديكتاتوريات، بل لأنها أصابت في العمق منظومة الانتماء الوطني والعروبي التي كانت، على ضعفها، تشكل رابطاً وجدانياً بين المواطن ودولته وبين الشعوب وأمتها الكبرى.
قبل الربيع العربي، كان المشهد العربي والإسلامي مغايراً تماماً. الأنظمة التي حكمت بلدان المنطقة كانت سلطوية بطبيعتها، تتركز فيها السلطة في يد الحاكم أو الحزب الواحد، ويُحكم الشعب بالشدة والقبضة الأمنية.
لكن رغم هذا الواقع، كان ثمة حد أدنى من الاستقلالية في القرار الوطني، أو على الأقل محاولة لإظهاره. بعض الأنظمة رفعت شعارات العروبة والمقاومة، وأخرى تمسكت بخطاب إسلامي أو وطني جامع، وقدّم الإعلام الرسمي – ولو شكلياً – صورة تُبقي على شعور الانتماء للأمة، حتى وإن لم تُترجم تلك الشعارات إلى سياسات ملموسة. وكان الموقف من الغرب يتسم بالمراوحة بين التعاون والخصومة، إذ ظلت العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا محكومة بالحذر، فالتعاون الأمني والاقتصادي قائم، لكنه لم يكن يصل في أغلب الأحيان إلى التبعية الكاملة.
غير أن الربيع العربي قلب الطاولة. فما إن سقطت أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن، ودخلت سوريا في أتون الحرب، حتى تبيّن أن المشكلة لم تكن فقط في الحاكم المستبد، بل في هشاشة الدولة ذاتها. فقد أدى انهيار الأنظمة إلى فراغ سياسي لم يُملأ بمؤسسات وطنية راسخة، بل بتدخلات خارجية وصراعات داخلية طاحنة. الكرسي الذي كان يحمى بالأجهزة الأمنية والجيوش صار مرهوناً بقرار من واشنطن أو بمباركة من القوى الإقليمية المتنازعة.
وباتت الشرعية تُمنح أو تُسحب ليس من الشارع وحده، وإنما من الخارج الذي تحوّل إلى لاعب أساسي في تقرير مصير العواصم العربية.
الأخطر من ذلك كله أن سقوط الأنظمة ترافق مع سقوط الخطاب الجامع. فالعروبة التي كانت تمثل، ولو رمزياً، رابطة بين العرب، تراجعت لتحل محلها الانقسامات الطائفية والمذهبية والقبلية. والدولة الوطنية التي كانت، رغم استبدادها، تشكل وعاءً لحماية الهوية الجامعة، تصدعت لصالح هويات فرعية ونزعات جهوية غذتها التدخلات الخارجية ومصالح القوى الكبرى. ولم تعد بغداد أو دمشق أو طرابلس أو صنعاء مجرد عواصم عربية ذات سيادة، بل تحولت إلى ساحات صراع بالوكالة، تتنازعها المشاريع الدولية والإقليمية.
لقد كان الربيع العربي وعداً لم يكتمل. أراد الناس الحرية، فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام فوضى لم تبقِ لهم وطناً يلوذون به. وأرادت الشعوب العدالة، فإذا بها تواجه انقسامات حادة تُهدد بتمزيق نسيجها الاجتماعي. وبين الماضي والحاضر، يبقى السؤال معلقاً: هل كان العرب قبل الربيع العربي أسرى أنظمة مستبدة ولكن مستقرة، أم أنهم بعده أصبحوا أسرى فوضى أفقدتهم حتى ما تبقى من استقلالية وانتماء .