الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مذكرات جيف داير عن العائلة والهوية الإنكليزية في ضوء حاضره في كاليفورنيا.. نورما كلاركي


مذكرات جيف داير عن العائلة والهوية الإنكليزية في ضوء حاضره في كاليفورنيا.. نورما كلاركي

 

ترجمة :رمضان مهلهل

نورما كلاركي

 

يشتهر جيف داير بأناقة أسلوبه وتنوع مواضيعه. فقد كتبَ الأدب القصصي والأدب اللاقصصي والمقالات. وهو مهتم أيضاً بالسينما والفن والتصوير الفوتوغرافي وموسيقى الجاز، والأهم من ذلك كله، هو مهتم بالكتّاب والكتابة. كما أنه بارع في اختيار العناوين الطريفة. من بين أعماله: «جيف في البندقية، والموت في فاراناسي” وهي رواية؛ و «من شدة الغضب”، وهو كتاب عن فشله في كتابة سيرة ذاتية لـ د. هـ. لورانس؛ و”اليوغا لمن لا يكترثون بممارستها»، وهي مجموعة مقالات عن السفر؛ و”الأيام الأخيرة لروجر فيدرر، ونهايات أخرى»، وهو كتاب يتأمل في موضوعات الفناء وأسلوب الكتابة في المراحل المتأخر من الحياة، مع الإشارات إلى نجم التنس [روجر فيدرر] من حين لآخر.  

كتب داير في كتابه “اليوغا لمن لا يكترثون بممارستها» (2003) بأن الوطن هو «المكان الذي شهد أقل قدر من الأحداث «؛ إذ في ذلك الوقت، كان الوطن “يبدو هامشياً، وبالتالي، غامضاً للغاية”. كان ذلك بمثابة عقيدة بالنسبة له، كما كتب في موضع آخر، أن “الحياة، في أفضل حالاتها، تدور حول الرغبة في عدم العودة إلى الوطن أبداً». كانت الحياة بالنسبة له تدور حول الرغبة في التواجد في البندقية أو فاراناسي، أو أمستردام، أو كاليفورنيا، في الفنادق أو منهمكاً في مهام الكتابة والزمالات – فقد كانت لداير فترات إقامة في العديد من الجامعات الأمريكية، وهو يُدرّس حالياً الكتابة الإبداعية في جامعة جنوب كاليفورنيا.

ولكن ها هو الآن يقدّم كتاب «الواجب البيتي» Homework، وهو مذكرات عن طفولته، صفحة تلو الأخرى مليئة بذكريات دقيقة، يسترجعها بوضوح تام دون أية مواربة. يتذكر داير أسماء الأولاد الذين لعب معهم في روضة الأطفال، والمواقع الدقيقة لألعابهم بالسيوف البلاستيكية والمسدسات الصغيرة، وتفاصيل شغفه الطفولي. ونكتشف كم كان مولعاً بجمع البطاقات التي تأتي مع علكة الفقاعات وعبوات الشاي، وحماسه بموسم الكستناء، وسعادته في صنع نماذج “إيرفيكس” للطائرات. يستطيع وصف عائلته الكبيرة الممتدة من العمّات والأعمام بطباعهم المختلفة؛ والرحلات والنزهات؛ والنسيج المادي لنشأته؛ و(ضمنياً) الأذى النفسي المحتمل الذي سبّبه العالم الاجتماعي الذي وُلد فيه.

صفائح معدنية

كان ذلك العالم مدينة تشيلتنهام في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حيث كان والده عامل صفائح معدنية في مصنع، ووالدته بائعة وجبات مدرسية. كان داير طفلاً وحيداً، يحظى برعاية جيدة. ويمكنك أن ترى بأنه كان بمثابة قرة عينَي والديه، مع أنه لم يُخبرنا بذلك. ويروي لنا عن مشاهدة والده وهو يحلق ذقنه عند حوض المطبخ، وكيف كان والده يُغطي سياج الحديقة بالكريوزوت كل عام، وفي الشتاء كان يُغلق الماء في المرحاض الخارجي تحسباً لانفجار الأنابيب، لذلك، ولنصف العام، وبشكل مُزعج، لم يكن لديهم سوى مرحاض واحد. ويتذكر داير حب والده لسيارة «فوكسهول فيكتور» الزرقاء السمائية التي تظهر على الغلاف، و”اقتصادياته الزائدة”، مثل عدم ملء خزان الوقود إلا لنصفه فقط، وقلقه الدائم بشأن المال. ويكتب داير عن والده بفهم ناضج، ولكن بجفاء ودون عاطفة ظاهرة. ويحاول فهم التكوين النفسي لوالده، و”علاقته البسيطة بالعالم”: كيف أصبح رجلاً قليل الاهتمامات وكثير المهام؟ ماذا يعني هذا الرضا البسيط لحياته ولزوجته ولابنه الحبيب الذي يتأمل قائلاً: «منذ صغري، رُبيت في المنزل على مفاهيم القبول التي وجدتها لاحقاً غير مقبولة على الإطلاق»؟

يتأمل داير بأن مَيل والدته المتزايد للتعليق على مدى رضا والده كان دليلاً على استيائها، “استياء تخلّله المزيد من الإحباط لدرجة أنها وطّنت نفسها عليه». وتظل والدته شخصية غامضة طوال الرواية، حتى يحصل كشفٌ متأخر، جرى التلميح إليه في وقت مبكر، يُضفي مزيداً من المشاعر على الحكاية. مثلاً أنها نشأت في فقر ريفي.

وتربّت على المذهب الميثوديّ، فلم تكن تجيد الطبخ، ولم تشرب الكحول، وكانت فخورة بعيشها في منزل يقع في نهاية صف من البيوت المتلاصقة لأنها كانت تستطيع التظاهر بأنه شبه منزل منفصل، وبالتالي يكون ذا مكانة اجتماعية أعلى.  كان جيف الصغير سعيداً ونشيطاً، وإن بدا طفلاً ضعيف البنية. اجتاز امتحان الشهادة الثانوية العامة (11+) وتفوّقَ في امتحانات مدرسة تشيلتنهام النحوية، حتى وجد نفسه في أكسفورد، وهو مكان يصفه بأنه “خارج حدود خريطة هذا الكتاب»، تماماً كما كان خارج حدود التوقعات. فتحت أكسفورد له أبواب العالم الذي سيعيش فيه لاحقاً – مسيرته المهنية الغامضة (لعائلته وأصدقائه) بوصفه كاتباً محترفاً.

واجب بيتي

لا شيء مما يتذكره داير من طفولته في كتاب “الواجب البيتي» يوحي بهذه النتيجة. ولم يبدأ داير في الاهتمام بالكتب إلا في الصف السادس، ولم يُبدِ أي طموح لأن يكون كاتباً – فهو مهتم بالبيرة والفتيات والموسيقى. كما أنه لا يُفكّر في معنى خياراته بالنسبة لمن عرفوه. إن «خريطة» كتاب «الواجب البيتي»، كما يرسمها داير، مأخوذة من مقدمة قصيدة “أغنية عن نفسي” لوالت ويتمان، وظيفتها إظهار “أثر طفولتي عليّ”.

أما الحكاية التي يرويها عن نوبة شرب في فترة المراهقة، حين كان والده يجلس بجانب سريره طوال الليل ليتأكد من أنه لا يتقيأ أثناء نومه، فهي لا تُروى بوصفها قصة عن والده

هناك مقولة أخرى أطول لريموند ويليامز تُشير إلى “الانغماس السعيد في عالمنا الخاص” الذي يميّز الطفولة، وكيف يتغير ذلك عندما نكبر. يكتب ويليامز بأن ما كان في السابق «قريباً، ومشوقاً، ومقبولاً، ومألوفاً، ومحسوساً من الداخل، يصبح منفصلاً، وناقداً، ومُتغيراً، ومُلاحظًا من الخارج». ويُحذّر من أن التشوش لا يُمكن أن ينتج إلا “إذا جرى إسقاط ذاكرة الطفولة الحقيقية، دون النظر إليها بوصفها تاريخاً». إن قلق داير من سوء الفهم – فهذه الذكريات لا تُقدم كتاريخ (لكنها كذلك) – ربما يفسر ميله إلى الانزلاق نحو الطابع البطولي الساخر.

أو، ما هو أسوأ، نحو المغالطة العاطفية: فسياج الحديقة، كما يعلّق بسخرية، وُجد ليُطلى بالكريوزوت؛ ومخزون زجاجات سينزانو وبيبي تشام، التي لم تُشرَب قط، في خزانة الكوكتيلات في غرفة الجلوس التي لم تُستخدم أبداً، ظلَّ في «حالة شبه نباتية، عالقاً لسنوات، في ما كان، بحسب وجهة نظرهم، إما في حالة نصف ممتلئ أو نصف فارغ».

هل هذا يتوقف على وجهة نظرهم؟ لا.

 ربما كتب وردزورث شيئاً كهذا عن الأشجار، ولكن ليس عن بيبيتشام.  كان العنوان المؤقت لكتاب «الواجب البيتي» Homework هو “حدث واقع» A Happening. ثم أصبح “الواجب البيتي» «في وقت متأخر من اليوم»، لأسباب غير معروفة وغير واضحة.

داير يُحب التورية والنكات الخفية، ويُخبرنا بأن “كل شيء مُدرَج في عنوان العمل”. ماذا يعني ذلك؟ هل يُشير إلى ملاحظته بأن الوطن هو المكان الذي شهد أقل قدر من الأحداث، وإذا كان الأمر كذلك، فهل وقوع “حدث” يعني حصوله على أرض الواقع؟ لقد حيّرني هذا الأمر لفترة أطول مما ينبغي، وأشعر بالغباء لبقائي في حيرة من أمري. عنوان “الواجب البيتي» كان أكثر وضوحاً: الواجب البيتي هو ما يفعله تلاميذ المدارس؛ وقد يعني العمل الذي يقوم به الكُتّاب، والذي يُؤدونه عادةً في البيت؛ أو العمل المتمثل في استذكار الوطن والكتابة عنه، وهو ما اختار داير أن يقوم به. وهو أيضاً عمل ينمّ عن فهم معنى الوطن، وهو في هذه الحالة إنكلترا مثلما تُرى من خلال كاليفورنيا. ويقتبس داير الجملة الافتتاحية الشهيرة لرواية الوسيط The Go-Between للكاتب ل. ب. هارتلي، «الماضي هو بلد أجنبي”، ليعبّر عن معارضته لهذه العبارة (عبر إشارة غير مباشرة إلى د. هـ. لورنس).

إذا كان هناك شيء واحد لا ينطبق عليه وصف “بلد آخر”، فهو الماضي. الماضي هو هذا البلد، هذه إنكلترا. إنكلترا، يا إنكلترا التي هي مدينتي. هذه العبارة أشبه بعلامة مائية مطبوعة بشكلٍ غير مرئي على كل صفحة من صفحات هذا الكتاب، غير مرئية بمعنى أنها ظاهرة. إنكلترا، يا إنكلترا التي هي مدينتي: لم أشعر يوماً بانتمائي إليها كما أشعر الآن، منذ أن بدأتُ أعيش في المكان الذي طالما حلمتُ بالعيش فيه، أي في كاليفورنيا – ذلك المكان الذي لن أشعر فيه أبداً بأنني في وطني

لا تمطر في كاليفورنيا بما يكفي لتشعر وكأنك في وطنك. الطقس مهم. ويعتقد داير بأن الحدث الأكثر “حسماً من الناحية النفسية» في مراهقته وقع عندما كان في الرابعة عشرة من عمره تقريباً، وكان متحمساً لحضور مهرجان مجاني كانت تُحييه فرقته المفضلة، هوكويند Hawkwind. إلا أن ذلك لم يحدث. فقد أُلغي المهرجان بسبب المطر. تحطمت آماله، وتراجعت معنوياته. لقد «تأثرت نظرته تجاه إنكلترا، والمهرجانات، وربما تجاه الحياة، بسبب ما حدث في ذلك المساء”. لا يزال يشعر بالغضب إذ أفسد المطر شيئاً كان يتطلع إليه. فخلافاً لوالده، لا يستطيع أن يرضى بالأمر الواقع، وعلى عكس والدته، لا يقبل أن يصيبه الإحباط.

يعدّ داير كاتباً غزير الإنتاج وناجحاً بكل المقاييس، لكنه عندما يكتب عن حياته المهنية، يميل إلى تصويرها كنوع من الكسل أو التسكع. مثلاً، تبدأ مقالته “الانحدار والسقوط” بعبارة: «في روما، عشتُ بأسلوب الكتّاب العظام. لم أفعل شيئاً طوال اليوم تقريباً. لا شيء على الإطلاق». وهناك أمثلة أخرى كثيرة، ممهورة بفكاهته اللاذعة والجافة المعهودة. وبقدر ما تتضمن الكتابة عادةً الجلوس في مكان واحد، فقد تبدو وكأنها تسكع، بل وتشعر بها بأنها كذلك في كثير من الأحيان، لكنني أعلم بأن الكُتّاب لا يقومون بـ “لا شيء” طوال اليوم. وداير يعلم ذلك أيضاً. لكن الأشخاص الذين نشأ بينهم، بدءاً من والديه، ربما لم يكونوا يعرفون ذلك. هناك مزيج معقد من الإنكار والتباهي. فهو يُعرب عن دهشته من أن الناس يقرأون كتبه ويشترونها، ليتمكن من عيش الحياة التي يعيشها تحت شمس كاليفورنيا، والتي يُصوّرها على أنها حياة سهلة، وليست عملاً حقيقياً، مُنحت له بطريقة ما لأنه شخص مميز، تماماً كما كان مميزاً بالنسبة لأمه وأبيه، اللذَين رَأَيا في تعليمه ما رفعه أبعد من عالمهما. وعندما توفي جده، أدرك بأن اقتباسه من مسرحية “الملك لير» كان «غير لائق»، وعندما عرض على والده شيئاً قد كتبه، أدرك على الفور بأن أجزاء من حياته أصبحت “عصية على الفهم أو المشاركة».

في كتابه “الأيام الأخيرة لروجر فيدرر”، كتبَ: «ألن يكون أمراً رائعاً لو كان من الممكن أن يكون المرء كاتباً جاداً دون أن يأخذ نفسه على محمل الجد إطلاقاً؟ ... أعني أثناء قيامه بالعمل فعلياً». جيف داير هو مَن يقوم بالعمل فعلاً. كتابه “الواجب البيتي» يبدو أحياناً أشبه بمذكرات مُبالغ فيها، ويحمل في طياته بعضاً من الجدّية الذاتية التي يُبديها عندما يسخر من الكُتّاب الذين “يصنعون وليمة أدبية» من موضوعهم. وقد تشعر وأنت تقرأه بأنك تتناول وجبة أدبية دسمة، ولعلّ الأفضل تناولها على دفعات صغيرة. ومع ذلك، فهو كاتب جاد، ويُضفي على تأمله في ماضيه درجة مُرضية من العمق والتعقيد.

عن “ملحق التايمز الأدبي”، 23 – 5 – 2025.


مشاهدات 58
أضيف 2025/07/12 - 1:19 AM
آخر تحديث 2025/07/12 - 2:58 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 523 الشهر 7340 الكلي 11160952
الوقت الآن
السبت 2025/7/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير