لو كان الإدمان رجلاً لقتلته
26 حزيران اليوم العالمي لمكافحة الإدمان
همام الشريفي
المقدمة
لقد استعرت هذا الاقتباس في عنوان المقال من كلام مماثل للامام علي في معرض مكافحته للعوز والظلم الاجتماعي، عندما قال (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) وكنداء استغاثة لحماية حضارتنا الانسانية من السقوط والاضمحلال بسبب هذا الداء الخبيث. بدأت رحلتي في اكتشاف هذا العالم المظلم والغامض منذ عام 2009 عندما تم تكليفي كمهندس استشاري معماري لتصميم مركزلإعادة تأهيل المدمنين على المخدرات من قِبل مؤسسة شبه حكومية في برمنغهام. اذكر جيدا ان حكومة «گوردن براون» كانت قد خصصت ميزانية ضخمة لمحاربة الادمان في حينها. وضعت التصاميم الاولية لغرض توفير بيئة آمنة لكل من المرضى والعاملين ضمن حسابات التعرض للمخاطر ومنها محاولات الإنتحار والفرار من المركز والاعتداء على الكوادر الطبية وغير الطبية وايذاء النفس وتخريب الممتلكات والتسبب بالحريق والقائمة تطول. لقد كانت تضم هذه المؤسسة الخيرية أكثر من 1800 موظف مع 250 متطوعًا يعملون بلا كلل او ملل لإنقاذ شباب بعمر الزهور من هذا الداء المرعب. وكان اسم المؤسسة في حينها «جمعية مبادرة الحد من الجريمة». لغرض قبول هذا التكليف، طلبتُ من اصحاب العلاقة مراجع ومصادر حول جذور مشكلة الإدمان في المجتمعات ومسبباته الاحصائية، ولكنني لم أستطع التوقف عن القراءة والتوسع في دراسة هذا الموضوع حتى بعد إكمال مراحل المشروع، كونه في تقديري المصدر الاساس لكافة أنواع التفكك الاجتماعي والشلل الاقتصادي والجريمة المنظمة وما يتصل بالاخيرة من أنواع الرق والاستعباد والبغاء وغسيل الاموال والعمليات الأرهابية والعنف والتطرف. لقد تم بناء المشروع خارج المنطقة الحضرية ضمن طبيعة خضراء جميلة لذلك تم اعداد تصاميم مبتكرة في ادخال عناصر الحدائق والأشجار والمظللات وسواقي المياه وأشعة الشمس المباشرة إلى الفضاءات الداخلية في بيئة مراقبة من قبل كوادر المركز.
حقائق
كان يُعتقد سابقا على مستوى الفهم العام ان الإدمان يُصيب في الغالب اولئك الذين غمرتهم موارد الثراء والشهرة ويبحثون عن متع جديدة في الحياة، و لكن مع تطور شروط الحياة المدنية القاسية، دخل الادمان وبشراسة إلى مجتمعات حُرم أفرادها من أبسط مقومات الحياة ليعيشوا على هامشها في فقرٍ مدقع لاسباب بيئية وذاتية. وبناءً على ما تقدم، لا يسلم أي شخص من داء الإدمان سواءً كان غنيًا أو فقيرًا او حاصلا على تعليم عالٍ أو ذو ثقافة بسيطة او يعيش في بيئة متحضرة أو يمارس حياة بدائية.
تاريخيا
لقد ساهم إدمان المخدرات في تحجيم العديد من الحضارات وعزلها بعيدا عن التطور في عصور تاريخية معينة، ومن الأمثلة على ذلك الصين. لهذه الدولة تاريخ عريق مع إدمان الأفيون و الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، حيث استمرّت كمشكلة أساسية طوال القرن العشرين و لعبت قضية إدمان الأفيون و تأثيرها على المجتمع الصيني دورا رئيسيًا في حروب الأفيون مع بريطانيا العظمى في أربعينيات القرن التاسع عشر. و في مرحلة لاحقة أشارت التقديرات الاحصائية لعام 1949 إلى تشخيص أكثر من 20 مليون مدمن أفيون في الصين، و كانوا هؤلاء يمثلون حوالي 4.4 بالمئة من السكان. بتطبيق بسيط للعمليات الحسابية، فإن هذا الداء كان قد ألقى بظلاله الاقتصادية على اكثر من 4 ملايين أسرة صينية من اصل 84 مليون أسرة استنادا إلى حجم الأسرة الافتراضي انذاك 5.4 فرد كمعدل. بناءا على ما تقدم، يمكن لشخص واحد مدمن داخل العائلة أن يشل الوضع الوظيفي للأسرة اجتماعيًا واقتصاديًا.
أسباب الإدمان
هناك مستويان متبادلان لتحفيز الميل إلى الادمان وهما؛ التأثيرات البيئية الخارجية والعوامل الوراثية الذاتية. يُسهم نمط حياة الإنسان في ظل عالم سريع التحول والتطور والتسارع دورا كبيرا في انتشار هذا الداء، حيث يتعرض الفرد لمختلف أنواع الاغراءات والاستهواءات عبر أشكال متعددة من الترويج الإعلامي. جديراً بالذكر انه في بعض البيئات الاجتماعية الخاصة، يُعتبر تعاطي المخدرات وسيلةً للتميز والبروز والظهور بثقة بين الأقران والأصدقاء . على العموم، يُشير بعض الاختصاصيين إلى أن المصابين باضطراب «الشخصية النرجسية» المصاحبة «للوسواس القهري» هم أكثر عرضة من غيرهم لمشاكل تعاطي المخدرات والإدمان عليها، حيث تربط معظم الأبحاث التي أجراها علماء النفس ربطا عضويا وإحصائيا بين النرجسية والإدمان، لأن النرجسي لا يستطيع تقبّل حقيقة كونه الشخص الثاني في الاهتمام، فيلجأ إلى المخدرات والكحول بحثًا عن انفعالات عاطفية افتراضية وتقييم متكلف غير واقعي للذات ضمن نظرته الفوقية تجاه الآخرين. تجدر الإشارة إلى ان الانفجار السكاني الذي يحد ويبطّيء التطور الاقتصادي في الدول النامية، يعد سببا إضافيا لانتشار المخدرات والادمان عليها.
بالإشارة إلى تقرير أمريكي نُشر حول موضوع «الكحول والمخدرات والصحة» عام 2021، تمر دورة الإدمان بثلاث مراحل: (أ) الإفراط في المخدرات وصولا لمرحلة التسمم ، وهي المرحلة التي يستهلك فيها الفرد المادة المخدرة ويستشعر آثارها الممتعة، و (ب) الامتناع عن المخدرات بصورة دائمية، وهي المرحلة التي يعاني فيها الفرد من حالة عاطفية سلبية في غياب التعاطي، و (ج) الابتعاد عن المخدرات بصورة مؤقتة، وهي المرحلة التي يسعى فيها المرء إلى التعاطي مرة أخرى بعد فترة انقطاع. تتمحور المهمة الرئيسية لاختصاصيي علاج الادمان حول كسر تعاقب هذه المراحل لغرض الخروج من دورة الاضطرابات النفسية والعقلية للمريض.
مع سهولة الوصول إلى معلومات الإنترنت بكبسة زر وظهور الذكاء الاصطناعي، يمكن القول إن معظم الجيل الناشئ يعتقد أنه أكثرعلما ودراية وخبرة من جيل المسنين في جوانب عديدة من الحياة، وهذا ما يؤسس لفكر استعلائي وفوقي وتعصبي لدى شريحة كبيرة من الشباب. يبدو لي ان هذا الجيل لم يستطع ان يفرّق بين «المعرفة الصريحة» المدونة في الكتب والمتاحة للجميع وبين «المعرفة الضمنية» المستترة والتي تكتسب فقط من خلال المرور بتجارب الحياة القاسية، لتُزود الإنسان بالحكمة اللازمة والبصيرة الثاقبة في اتخاذ القرارات الصائبة. يمكن الإشارة هنا إلى المثل الإنكليزي الذي يقول (الطماطم تصنّف كفاكهة من باب «المعلومة الصريحة»، ولكن لا يمكن ادخالها في سلطة الفاكهة من باب «الحكمة المستترة»). ان انتشار الفكر النرجسي لدى الجيل الناشئ قد يفاقم مشكلة ادمان المخدرات لصلة هذا المرض الوثيقة مع هذا النمط من التفكير والتعصب.
كيفية قياس الأثر
تستعمل «منظمة الصحة العالمية» معياراً حسابيا لقياس العبء الاقتصادي الذي تشكله بعض الأمراض والاوبئة على المجتمع. هذا المعيار مركب من «أعوام العمر الضائعة» للافراد بسبب الموت المبكر و»أعوام العمر المعطلة» للأفراد بسبب العوق الجسدي او العقلي او كليهما، فيكوّن هذا الصنفان ما يسمى «بأعوام الشلل الاقتصادي» لانتفاء الانتاجية وإضافة أعباء جديدة على المجتمع. لذلك تمثل النسبة المئوية المؤشرة لدولة معينة نسبة «أعوام الشلل» إلى «أعوام الانتاج». على العموم، نشرت منظمة الصحة العالمية احصائية في عام 2019 تضم قائمة بالدول الأكثر تأثرا بإدمان المخدرات والمُسكرات للأعمار من 12 عامًا فما فوق باستخدام نفس هذا المعيار الحسابي، فكانت في مقدمة القائمة من دول العالم الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 16.7٪ من اصل 340 مليون نسمة، وكندا بنسبة 15.2٪ من اصل 40 مليون نسمة ثم تلتها دول أمريكا اللاتينية الأصغر حجما والاقل سكانا وهي بيرو وبوليفيا وأوروغواي وصولا إلى اكبر اقتصاديات القارة وهي البرازيل بنسبة 7.1٪ من اصل 211 مليون نسمة . وهذا يشير إلى أن القارتين الأمريكيتين هما في الصدارة بفعل التجارة الرائجة بين الدول المنتجة والمصنعة للمخدرات في أمريكا اللاتينية والدول المستهلكة في أمريكا الشمالية. على اية حال هناك شكوك حقيقية تحوم حول الأرقام الاحصائية المنشورة لدول أمريكا اللاتينية بسبب ضبابية الوضع الصحي هناك والرقابة المشددة لنظمها السياسية.
الخسائر في الأرواح والاموال
يُودي الكحول بحياة عدد أكبر من الناس مقارنةً بجميع المخدرات الأخرى مجتمعة. ويُعدّ الكحول ثالث أهم سبب للوفاة في الولايات المتحدة مع وجود امكانية متاحة للوقاية منه وفق تطبيق برامج صحية وإعلامية رصينة. أفاد «المعهد الوطني لتعاطي الكحول وإدمانه» أن الكحول يُسبب 88,000 حالة وفاة سنويًا (62,000 رجل و26,000 امرأة). وقد أدى الكحول إلى تقصير أعمار هؤلاء الـ 88,000 شخص بمقدار 30 عامًا كمعدل، حيث عادة ما يكون الرجال أكثر عُرضةً لتعاطي المخدرات والكحول إذ يُعاني 11.5 بالمئة من الفتيان والرجال فوق سن 12 عامًا من اضطراب تعاطي هذه المواد، مُقارنةً بـ 6.4 بالمئة من النساء والفتيات.
للإجابة على سؤال يطرح كثيرا عبر وسائل الإعلام ان كان هناك فرق بين الكحول والمخدرات الأخرى، فان الجواب العلمي يشير إلى أن كليهما مواد كيميائية تُؤثر على العقل و يُسببان الإدمان ويشكلان خطرا صحيا لا يستهان به ولكنهما يختلفان في وضعهما القانوني وقبولهما الاجتماعي فشرب الكحول قانوني بينما تناول المخدرات غير قانوني. وفي موضوع الفروقات تحديداً، فان الاطباء يشيرون إلى ان الانقطاع التام عن الكحول بدون تدرج زمني ورقابة صحية يؤدي إلى الوفاة ولكنه لا يؤدي إلى ذات النتيجة مع توقف تناول المخدرات. منذ عام 1971، أنفقت أمريكا أكثر من تريليون دولار على تطبيق سياساتها المتعلقة بالمخدرات وذلك وفقًا لبحث أجرته جامعة بنسلفانيا. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار التضخم المالي عبر خمسة عقود من الزمن، فان الرقم يرتفع إلى تريليون ونصف دولار تقريبا.
الحياة الجامعية
يبدو أن الانتقال من المنزل إلى الحياة المستقلة خلال سنوات الدراسة الجامعية يوفر ميلاً حقيقيا ورغبة عالية لدى الشباب لتعاطي المواد المخدرة إلى حد إساءة استخدامها. وفقًا لدراسة حديثة نشرت في بريطانيا، تصدّرت جامعة مانشستر قائمة الجامعات الأكثر تعاطيًا للمخدرات، حيث أفاد 90 بالمئة من الطلاب ممن جرى استجوابهم أنهم جرّبوا المخدرات من الفئة «ب». وتقدّمت بذلك هذه الجامعة على جامعات شيفيلد ونيوكاسل وبرمنغهام في هذا الإحصاء الاستجوابي. و تبيّن كذلك أن طلاب جامعة كامبريدج هم الأكثر نظافةً في التعاطي. على وجه العموم، تُصنّف المواد المخدرة و المسكرة الخاضعة للرقابة في المملكة المتحدة إلى ثلاث فئات (أ، ب، ج) بموجب قانون «إساءة استخدام المخدرات لعام 1971»، وبالتالي، تُشكّل الفئة «أ» أعلى مستوى من الخطر الصحي على الحياة والمجتمع، بينما تُشكّل الفئات الأخرى مستويات ادنى في الخطورة الصحية والاجتماعية. بمعزل عن هذه الفئات، هناك تصنيف قانوني آخر للمواد الصيدلانيّة والأدوية حسب المعايير الرقابية والصحية المعمول بها في المملكة المتحدة.
علاج الإدمان
يُعدّ العلاج «المعرفي والسلوكي» علاجًا اساسياً بالنسبة لاضطرابات الإدمان، سواءً تم تطبيقه بمفرده أو مع علاجات أخرى مكملة، فهو يُساعد المتعاطي في مراحل التعافي المُبكرة في تقليل الأعراض، ومنع الانتكاسات، وتعلم آليات التأقلم، والتغلب على الصدمات النفسية. تُشير دراسات موازية اخرى إلى وجود علاقة بين تمارين الاستغراق والتأمل (مثل الايروبِك) و تطور القدرة الإدراكية والعقلية للمريض للتحكم بمشاعره. هنا ينبغي تبني علاج هجين يجمع بين حضور العيادات الاستشارية والمناقشات العائلية لغرض معالجة السبب الجذري مع استخدام أدوية مهدئة لتخفيف أعراض الانقطاع المفاجئ عن التعاطي والذي قد يرافقه مجموعة من الاضطرابات النفسية والعقلية خصوصا في الايام الاولى من رحلة العلاج.
كذلك يُمكن أن يكون العلاج بالموسيقى عنصرًا مفيدًا في علاج الإدمان، إذ يُساعد في تهذيب المشاعر الإنسانية وتقليل المخاوف الداخلية وبث الامل بالمستقبل واستشعار جمال الحياة وتحقيق المصالحة مع الذات بما يعجل برحلة التعافي.
اما العلاج اللاهوتي والمرتكز إلى توظيف الإيمان الروحي فانه يدمج الدوافع الاخلاقية للفرد مع معتقداته الدينية، وهو بذلك يؤسس لعلاقة جديدة بين الصحة النفسية والاستقرار الروحي، ويدفع باتجاه تمكين مرضى الادمان من معالجة مخاوفهم الذاتية وقلقهم الداخلي باستخدام الايمان وفتح افاق الفكر والمنطق والفلسفة للتحرر من الانغلاق والانكماش والتراجع. يمكن أن يشمل هذا المنهج اللاهوتي ممارسات متنوعة في الصلاة والانقطاع والتأمل وحضور جلسات معرفية لتبادل الرؤى مع مرضى اخرين في بيئة يسودها الاحترام المتبادل والتسامح.
تمويل العلاج:
وفقًا لتقرير نشره مدير «السياسة الوطنية لمكافحة المخدرات» في أمريكا عام ٢٠٢٣، فإن 85% من جميع أبحاث علاج الإدمان في العالم تُجرى أو تُموّل في الولايات المتحدة. ومع ذلك، تُعدّ البرتغال من أفضل الدول في علاج مدمني المخدرات وتنظيم مصحاته. ويعود الفضل في ذلك إلى قيام الحكومة منذ عام 2001 بإلغاء تجريم تعاطي المخدرات على نطاق مقنّن، وتأسيس سلطة رقابية جديدة لتشريع العلاج الإلزامي، إلى جانب الاستثمار المالي في افتتاح عدد من مراكز إعادة التأهيل. وتقع هذه المراكز في مناطق سياحية نائية عن التجمعات الحضرية وسط الطبيعة الخلابة والمطلة على ساحل المحيط الأطلسي. وقد أظهرت الأبحاث اللاحقة بعد عام 2001 أن استبدال العقوبات الجنائية بالعلاج الإلزامي قد ساهم في تحقيق نتائج إيجابية ملموسة، بما في ذلك انخفاض تعاطي المخدرات غير المشروعة بين المراهقين، وانخفاض حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية، وانخفاض الوفيات المرتبطة بالهيروين والمخدرات المماثلة إلى النصف تقريبا. ويرجح بعض الخبراء ان اهتمام الحكومة البرتغالية بفتح مراكز تأهيل جديدة جاء لوجود دوافع اقتصادية متمثلة بالطلب المتزايد لهذا النوع من العلاج على النفقة الخاصة من قبل مواطني دول أمريكا اللاتينية ومنها دولة البرازيل كونها ناطقة باللغة البرتغالية بما يحقق موارد مالية كبيرة للدولة.
تأثير كوفيد-19:
فاقمت جائحة كوفيد-19 حدة أزمة المخدرات حول العالم بشكل خطير، حيث لا يخفى على احد ان فترة الحظر قد كشفت الفوارق في الإمكانيات والتجهيزات الصحية بين الدول الغنية والفقيرة مما أدى إلى نقص في الموارد المتاحة ولعبت الجائحة دورها السلبي في العزلة الاجتماعية وازدياد الأعباء الاقتصادية وتحجيم فرص الحصول على العلاج الصحي المناسب، مما مهّد إلى ازدياد نسب تعاطي المواد المخدرة والمُسكرة. تشير التقديرات الاحصائية إلى وفاة قرابة 93,000 شخص بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات داخل الولايات المتحدة عام ٢٠٢٠ اثناء الحظر العالمي.
الثقافة الإعلامية:
من المؤكد ان لوسائل الإعلام تأثيران متبادلان على الأشخاص الأكثر تعرضا لمرض الإدمان. فبينما يُساعد الإعلام الهادف في تزويد المراهقين بأساليب «المناعة الثقافية» لغرض تجنب تعاطي المخدرات وتعزيز مهاراتهم الذهنية في تحليل المعلومات المضللة، تَعرض وسائل الاعلام الأخرى «ثقافة استهوائية» لاستمالة المراهقين في هذه المسألة. وتجدر الاشارة بان إدمان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بحد ذاته قد يقود إلى مشاعر غير متوازنة من الاكتئاب النفسي والعزلة الاجتماعية، مما يؤدي بشكل او بآخر إلى الميل لتعاطي المخدرات من قبل المراهقين على اساس التجربة والاختبار لاول مرة. هذه السلسلة اللوغاريتمية كانت جزءًا مهماً في بحث اكاديمي أجرته أستاذة في الاتصالات «كاثرين غرين» عام ٢٠٢١ في كلية روتجرز للتعليم العالي في الولايات المتحدة.
توصلت دراسة اخرى أجراها «المركز الوطني للإدمان وإساءة استخدام المواد» في جامعة كولومبيا الأمريكية إلى نتيجة مفادها أن المراهقين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام هم أكثر عرضة لشرب الكحول وتعاطي المخدرات وتدخين السجائر مقارنة بأقرانهم الذين لم يستخدموا تلك الوسائل أو استخدموها بشكل أقل تكرارًا.
ان استبدال العلاقات الاجتماعية السليمة «بمجتمع افتراضي» عابر للقارات من خلال وسائل التواصل له تداعيات نفسية واخلاقية مظلمة ما لم تتظافر جهود الفلاسفة والمنظرين والاكاديميين والإعلاميين والقانونيين في وضع ستراتيجية للردع و التقويم العاجل.
الإحباط:
يلعب الإعلام المزيف الذي اصبح يقوده حاليا أنصاف متعلمين او افراد غير مجازين مهنيا دورا سلبيا في خلق اجواء الإحباط في المجتمع سعيا وراء الإثارة ورفع عدد المشاهدات على وسائل التواصل. حيث يقوم عدد كبير من المستخدمين بنشر اخبار كاذبة مستخدمين «الذكاء الاصطناعي» في الربط بين اللقطات التصويرية ومقاطع الفيديو، ويقوم البعض الاخر منهم بترويج «نظرية المؤامرة» في مجالات انتشار الاوبئة والأمراض وفي تفسير تقلبات الاقتصاد صعودا ونزولا. بالمقابل هناك عدد من ناشري المحتوى الهابط ممن يروجون لممارسات وتصرفات وعروض تافهة وسطحية وضحلة ضمن ما يسمى «بالخواء الاخلاقي» للمحتوى. تساهم هذه العوامل مجتمعة في وضع ضغط نفسي كبير على الاجيال الناشئة بما يمكن وصفه «بالطاقة السلبية الخارجية».
عموما تأتي مشاعر الإحباط احيانا من مصدر آخر يسمى «بالطاقة السلبية الداخلية» وهذا يتمثل بأنواع العوق الجسدي والذي يصاحبه فقدان الامل في التعليم المستمر وفرص العمل المجزية وتتجسد كذلك في الاضطرابات العقلية الناتجة عن أعراض «فرط الحركة و قلة التركيز». هذا النوع من السلوك البشري موجود بصورة طبيعية بين الأطفال بنسبة ٥٪ و بين البالغين بنسبة ٤٪ على وجه التقريب. على العموم فان النمط الأخير من الاضطرابات العقلية يسبب حرجا شديدا للكثيرين ويولّد الشعور بعدم تكافؤ القدرات مع أقرانهم مما يدفع باتجاه تعاطي المخدرات.
العراق ضمن محيطه الاقليمي:
لقد ازداد التعاطي المفرط للمواد المخدرة حول العالم في العقدين الماضيين و يشمل هذا الازدياد الدول العربية بالإجمال، ولكن المعلومات الاحصائية المتوفرة محدودة، وذلك لضعف المؤسسات البحثية وعدم وجود دعم مالي او إسناد مجتمعي، لهذا السبب تعتمد النشريات الصحية على استجواب عينات محددة في المجتمع.
بناءا على ما تقدم، قامت «المكتبة الوطنية للطب» في الولايات المتحدة باجراء عينات احصائية للأعمار بين ١٨ إلى ٣٠ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدى ٢٩ عاما. استخدمت المكتبة لهذا الغرض معيار «أعوام العمر المعدلة» وهو يمثل أعوام العمر الضائعة بسبب (أ) الموت المبكر و (ب) العجز الجسدي والعقلي، فجاءت النتيجة بازدياد هذا المعيار من (١٩٠) في عام ١٩٩٠ إلى (٢٣٤) في عام ٢٠١٩ محسوبا لكل ١٠٠ ألف نسمة بزيادة قدرها ٢٣,٥٪.
بالنسبة للعراق، فقد قامت منظمة الصحة العالمية بنشر دراستها عام ٢٠١٩ والتي كانت محدودة في مدينة أربيل للأعوام ٢٠١٦-٢٠١٧، و ذلك بجمع وتحليل اجوبة ٣٠٠ طالب مدرسة باعمار ١٧-١٩. تظهر الدراسة ان ٢٧٪ من هذه العينة يميلون إلى الإفراط في تدخين السجائر والنرجيلة (الشيشة) والمواد الصيدلانيّة غير المرخصة وشرب الكحول، بما يرجح ارتباط هذه الممارسة مع ظروف الحياة الاجتماعية والترفيهية.
قامت مجلة كندية علمية متخصصة بتطبيقات «علاج العقاقير في المجتمع» عام ٢٠٢٣ بنشر تقريرا عن تعاطي المواد الضارة بالصحة في العراق.
Journal of Population Therapeutics and Clinical Pharmacology
استند التقرير إلى معلومات مستقاة من وزارة الصحة للأعوام من ٢٠١٦-٢٠٢١. من نتائج هذا التقرير، هو حصول زيادة بنسبة ١٠٠٪ لحالات معالجة الادمان المسجلة من قرابة (٣٠٠٠) حالة مسجلة صعودا إلى قرابة (٦٠٠٠) على مدى (٥) سنوات. وقد ربط التقرير هذه النتائج مع ارقام احصائية من وزارة العدل في قضية ارتفاع عدد المتهمين باتجار المخدرات من قرابة (٦٣٠٠) متهم صعودا الى قرابة (١٤٤٠٠) متهم حيث تم عرضهم على القضاء العراقي في الفترة ذاتها.
يمثل التقرير مؤشراً قويا لتنامي مشكلة تعاطي المواد المخدرة وإسقاطاتها المظلمة على المجتمع لذا يتوجب وضع الخطط الاجتماعية و الصحية، مع توفير ميزانيات حكومية واخرى خاصة من منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والمصارف الاهلية، لان الموضوع يخص السلم المجتمعي والاستقرار السياسي.
الأمل:
هناك نوعان من التدابير في مكافحة انتشار المخدرات على مستوى الدول؛ النوع الاول هو التجريم القانوني لفرض العقوبات الرادعة، والنوع الثاني هو تقنين التجريم لفرض مناهج للعلاج الإلزامي. وقد استُخدم كلا النوعين في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الخمسة عقود الماضية حيث ركزت الحكومة الفيدرالية من خلال وكالاتها المتعددة مثل «إدارة مكافحة المخدرات» على تحجيم الاتجار غير المشروع بالمخدرات وتوزيعها. وتهدف ستراتيجيات الحكومة إلى الحد من الضرر بتبني «برامج خدمات الحقن» و «برامج الوقاية من الجرعات الزائدة» لتقليل المخاطر الصحية على المتعاطين بينما تستهدف «برامج التوعية الإعلامية» الشباب وغيرهم من الفئات الاكثر تعرضا لمصيدة الادمان.
تُعتبر سنغافورة على مستوى العالم من اكثر الدول صرامة وتشددا في تطبيق قوانين مكافحة المخدرات. وينص قانون «إساءة استخدام المخدرات» على عقوبات صارمة للغاية بما في ذلك الجلد للمتعاطي وعقوبة الإعدام للمتاجر بالمخدرات. يجدر التنويه ان ما يصلح لدولة سنغافورة كونها جزيرة صغيرة مع عدد محدود من السكان، قد لا يصلح لدول اخرى كبيرة المساحة وذات حدود برية طويلة مع دول اخرى مع كثافة سكانية عالية.
بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة إدمان المخدرات المصادف هذا اليوم ٢٦ حزيران، أهدت الفنانة التشكيلية ميسون الربيعي اللوحة المرفقة والتي تصور برسم تجريدي ورمزي وقوع المتعاطي في أسر وسجن الادمان المتمثل بالقارورة السوداء بينما لا يدرك هذا الإنسان سعة محيط الامل والتفاؤل من حوله.