الطريق يبدأ من القلب
نوري جاسم
كل شيء يبدأ من هناك، من ذلك الموضع الخفي في صدر الإنسان، من نبضة أولى ليست بيولوجية بل روحية، من يقظة صغيرة توقظها آهة أو دمعة أو لمسة من نور، من حنين لا يُعرف سببه، ومن اشتياق لا يحده زمان. الطريق لا يُصنع بالحسابات ولا يُقاس بالمقاييس، بل يُولد حين يتألم القلب في صمته، وحين يسأل عن سرّ وجوده، عن طريق الخلاص، عن يد تمسكه وهو يوشك أن يسقط، عن عين ترى ما وراء الظاهر وتدلّ على من لا تغيب عنه غائبة، وفي الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، لا نُعلّم الناس كيف يتكلمون عن الله، بل نُوقظ فيهم كيف يحبونه، كيف يخجلون منه، كيف يعبرون إليه من جسر القلب الصادق لا من صخب النفوس، إنها رحلة شاقة لمن لم يُطهّر نفسه، لكنها شافية لمن خضع وتزكى وسلّم، لأنها ليست طريقًا إلى مكان، بل طريق إلى حقيقة، إلى معرفة، إلى حب لا يطلب شيئًا، إلى نور لا يحرق لكنه يبدّل، إلى مقامٍ لا يُدرك إلا بمحو الذات وصدق النية وصبر السالكين، المربي في هذه الرحلة هو سرّها، هو مرآتها، هو ظلّها الطيب، هو الدليل الذي يمشي أمامك ولا يُشعرك بثقل الخطى، بل يُطمئنك أنك لن تضيع ما دمت معه، لا يفرض عليك، لا يقهرك، بل ينادي في أعماقك : تعال، جرّب، عِش، طهّر، اذكر الله بقلبك، صلي على الحبيب بروحك، وكن ما يجب أن تكون. السيد الشيخ محمد المحمد الكسنزان قدس الله سره كان قلبًا واسعًا يضمّ العابرين، ويدًا حانية تغسل جراح من أثقلتهم الذنوب، أما اليوم فالأمانة في يد من خُلق للرفق والهداية، السيد شمس الدين محمد نهرو الكسنزان، لغته المحبة، ولا يطرق إلا أبواب السلام، يزرع في النفوس نورًا لا يُطفأ، ويسقي الأرواح بركة الذكر، ودفء اللمسة الروحية، وصمتًا مليئًا بالإشراق، الذكر عندنا ليس مجرد ترديد، بل هو انغماس، هو انكسار الروح أمام عظمة الحق جل جلاله، هو أن يُفتح في القلب باب لا يُغلق، وأن ترى في كل شيء أثر الحبيب، إنها سفرة الحب الإلهي، يسبقها ألم وتليها طمأنينة، تمرّ بك فيك، تُطهّرك من أوهامك، وتغسل قلبك حتى يصير سليمًا، نقيًا، مستعدًا أن يُصافح النور، وكل الذين جاءوا من قبلنا، ومن سار معنا، ومن سيلتحق بهذا النور، يعرفون أن الطريق لا يُختصر، ولا يُسلك بالتمني، بل بالصدق، بالتوبة، بالصبر، وبشوق لا يفتر، وهناك هواجس، نعم، هناك لحظات تيه، هناك تعب وسؤال، ولكن من ذاق، عرف، ومن عرف، استقام، ومن استقام، صار قلبه أرضًا خضراء تنبت فيها الحكمة، ويشرب منها المحبة، ويفيض منها السلام، وقلوب كثيرة تتوجّه اليوم نحو هذا الطريق، لا لأن فيه العجب، بل لأن فيه الصدق، لأن فيه الله كما يجب أن يُحبّ، والناس كما يجب أن يُخدموا، والروح كما يجب أن تُطهّر. ليست دعوة للانتماء، بل نداء للعودة إلى تطهير النفوس، دعوة لأن ينظر الإنسان إلى قلبه قبل أن يحكم على غيره، أن يصلح نفسه قبل أن يُصلح العالم، أن يطلب وجه الله قبل أن يطلب من الله، والطريق يبدأ من القلب، ولا يصل إليه إلا القلب، وما بين البداية والنهاية، مسيرة من تطهير وتزكية وإشراقات، فيها لحظات ضعف، لكن فيها أيضًا لمحات من جمال لا يُروى، وبركات تُعاش ولا تُشرح، وفي كل خطوة، هناك من يمسك بيدك ويهمس: لا تتوقف، فالغاية تنتظرك، والله أقرب اليك مما تظن، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ...