حين لا تكفي القنبلة
طالب محمد كريم
قبل ثمانين عاماً تقريباً، كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، لكن اليابان كانت ترفض الاستسلام رغم سقوط ألمانيا، وكان الجنرالات الأمريكيون يعرفون أن اجتياح الجزر اليابانية لن يكون نزهة بل مجزرة بلا سقف، فقد كان المقاتل الياباني يتشرب من أدبه الشعبي وأساطير الساموراي معنى القتال حتى آخر نفس، حتى إن المكتب الأمني الأمريكي لم يكتفِ بخطط الإنزال والجسور، بل لجأ إلى قراءة الروايات والملاحم والشعر القديم، وأشرف علماء النفس والأنثروبولوجيا على تحليل هذه النصوص لا ليعجبوا بجمالها، بل ليكتشفوا من خلالها كيف يفكر هذا الشعب وما الذي يجعله ينكسر.
قنبلة ذرية
ومن هذه الخلاصة ولدت القناعة بأن القنبلة الذرية ليست سلاحاً فحسب، بل صدمة عقلية يجب أن تزلزل المخيلة قبل أن تدمر المدن، وحين ألقيت القنبلة على هيروشيما ثم ناغازاكي، كانت الرسالة واضحة: هذه القوة تفوق كل ما في التراث من أساطير البطولة، فتكسرت (أسطورة الإمبراطور المقدس) وسقطت فكرة القتال حتى آخر بيت، فاستسلمت اليابان ليس لأنها فقدت القدرة فقط، بل لأنها فقدت معناها المقدس للحرب.
ومنذ ذلك الوقت صارت المخابرات الكبرى تدرك أن كسر الشعوب يحتاج إلى دراسة ثقافتها أكثر مما يحتاج إلى تعبئة القاذفات. واليوم حين ننظر إلى إيران نجد أن القوة الكبرى أمام ذاكرة مختلفة، لأن الإيراني ابن حضارتين متداخلتين: الفارسية الإمبراطورية التي لا تموت وإن ذهبت ممالكها، والعقيدة الدينية التي جعلت من المظلومية والشهادة منبعاً دائماً للصبر والقتال، لذلك فإن قراءة أدب الفردوسي وحافظ وسعدي، المتوشحة بروح الملاحم التي عبرت قرون التاريخ، تكشف كيف تشكّلت هذه الروح التي تحتمل الحصار والعقوبات، وتحترف التفاوض، ولا تخجل من التراجع خطوة لتشيّد خلفها جداراً مناوراً من جديد.
ولعل من أنار هذا البعد بعمق نادر كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي زار طهران في بدايات الثورة الإسلامية وتسلل بين حشود المسيرات ليكتب بعدها في صحف الغرب أن ما رآه لم يكن مجرد انتفاضة سياسية ضد نظام الشاه بل كان (انفجاراً روحياً) أعاد الدين إلى الشارع بشكل لا يمكن لأي قراءة أوروبية كلاسيكية أن تفهمه وحده، إذ كتب بوضوح أن الثورة الإيرانية علمته أن الناس لا يثورون فقط من أجل الخبز بل من أجل استعادة المعنى المقدس في الحياة اليومية. هذه الملاحظة الفلسفية بقيت حتى اليوم حجر زاوية لفهم كيف يواجه الإيراني الضغوط: إنه يعتبر أن الخسارة المادية يمكن احتمالها إذا بقيت الشعلة المعنوية متقدة.
لكن الفارق الأهم أن الياباني قد ربط شرفه بشخص الإمبراطور، فلما تحطم الرمز سقطت الجماعة. أما الإيراني فإن رموزه تتوالد من فكرة لا من شخص، فإذا غاب رأس النظام حل محله رأس آخر، لأن المقدس هنا ليس فرداً بل سردية مستمرة. وهكذا فإن إسقاط قنبلة، حتى لو كانت نووية، لا يضمن تلقائياً انهيار الروح، بل قد يعزز فكرة الشهادة ويعيد بعث الأسطورة الحمراء في ثوب جديد.
خرائط دقيقة
ومن مفارقات اللحظة الراهنة أن بعض التقارير المسرّبة تشير إلى أن الفريق العسكري الأمريكي قد قدّم خرائط دقيقة لمفاعل (فوردو)الشديد التحصين إلى ترامب، مع توصية بضربه بصواريخ نووية تكتيكية تحملها قاذفات B-2 التي وصلت المنطقة كجزء من خطة كسر الإرادة النووية الإيرانية. لكن الدرس القديم باقٍ: فحتى لو تحطّم المفاعل، تبقى الفكرة حيّة في عقول الذين تربوا على الفردوسي وحافظ وعقيدة الفداء.
ولعل العقل البراغماتي للإيراني يضيف طبقة أخرى للمعادلة، فهو شاعر في لغته لكنه تاجر في عمقه، يقاوم حين تضيق الخيارات ويهادن حين تحلو له الصفقة، وهو ما جعله يعيش تقلبات من ممالك الشاه إلى جمهورية العقيدة دون أن يختفي من التاريخ، بل يعيد تشكيل نفسه في كل مرة ضمن تركيبة تستعصي على الكسر البسيط.
ولهذا فإن صناع القرار حين يلوحون بالخيار النووي أو بضربات إسقاط الرأس يعرفون أنهم لا يكررون هيروشيما ثانية بل يفتحون باباً لفوضى قد لا يستطيع أحد إغلاقه، لأن اختراق هذه المخيلة يحتاج إلى هندسة نفسية عميقة تستنزف الفكرة من الداخل قبل أن تسقط المباني من الخارج.
وهكذا يتبين أن من قرأ الأدب الياباني فهم كيف يهزم اليابان بقنبلة واحدة، ومن يقرأ أدب الإيرانيين يدرك أن هزيمتهم لا تتحقق بالمتفجرات وحدها، بل بفك شيفرة الذاكرة التي ما زالت ترى في الحصار ملحمة وفي الصمود آية وفي الموت باباً إلى حكاية جديدة لا تنتهي.