الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
صلاة القلق لمحمد سمير ندا: لعبة سردية ما بعد حداثية تفتح أبواب الجدل


الرواية الفائزة بجائزة البوكر لعام 2025

صلاة القلق لمحمد سمير ندا: لعبة سردية ما بعد حداثية تفتح أبواب الجدل

حمدي العطار

ماقبل النقد

في عالم الأدب الذي لا يتوقف عن إبهارنا بتجديده وجرأته، تطل رواية "صلاة القلق" للروائي المصري "محمد سمير ندا" كعمل استثنائي حصل على جائزة البوكر لعام 2025، ليضع كاتبه في مصاف الأدباء العالميين الذين يغامرون بتجريب أشكال سردية غير تقليدية. الصادرة عن دار "ميسكياني" التونسية عام 2024، تقدم الرواية بمزيجها من الواقعية المريرة والفانتازيا المظلمة، رحلةً عميقة داخل أعماق قرية مصرية تحمل أسرارا مروعة تحت عباءة التاريخ والسياسة. فكيف استطاع الكاتب أن يحول "نجع المناسي" إلى مسرح لأحداث غريبة تتراوح بين الواقعي والماورائي؟ وما الذي يجعل هذه الرواية جديرة بالمنافسة على أرفع الجوائز الأدبية؟ 

*الألعاب السردية: من الواقعية إلى ما بعد الحداثة 

تبدأ الرواية بلمسة واقعية واضحة، حيث نتعرف على "نوح النحال"، موظف بسيط في "دائرة الشهر العقاري"، القادم من قرية "نجع المناسي" في صعيد مصر. يحمل نوح في داخله سخطا خفيا على نظام "عبد الناصر"، لكنه يحتفظ به لنفسه خوفا من العواقب. تتحول حياته رأسا على عقب عندما يعتقل بتهمة "مجالسة صديق  متهم من قبل الامن بأنه من جماعة الإخوان المسلمين"، ليتعرض للتعذيب حتى يجبر على الاعتراف بما لم يقترفه.

*التحول السردي

هنا، يبدأ التحول السردي الكبير فبعد عودة نوح إلى قريته، تتحول الرواية من سرد تقليدي إلى لوحة "ما بعد حداثية" معقدة، حيث تتعدد الأصوات السردية وتتوزع الأحداث بين 11" شخصية"، لكل منها حكايتها المظلمة وصراعها الخاص. من "أيوب المنسي" (رجل الدين المنافق) إلى "خليل خواجه" (ممثل الحكومة الفاسد) وابنه "حكيم الأخرس" (الذي يقطع والده لسانه ليخفي جريمة قتل أمه)، وصولًا إلى "شواهين الغجرية" التي تغوي رجال القرية، و"محروس الدباغ" المتهم باغتصاب ابنته المعاقة تحت تأثير الأفيون واخرون. 

*عتبة العنوان: صلاة لم يصلّها أحد من قبل 

يأتي عنوان الرواية "صلاة القلق" كإشارة إلى "صلاة وهمية"، اخترعها أهل القرية بعد سقوط نيزك قريبا منهم، وانتشار وباء "الجذام" الذي يفقدهم شعرهم ويغمرهم بالخمول والقلق الدائم. هذه الصلاة، التي لا وجود لها في الدين، تصبح طقسا جماعيا يعكس "الهلع الوجودي" لشخصيات الرواية، وكأن الروائي يشبه نكبة 1948ونكسة حزيران 1967 مثل النيازك او الطاعون او الجذام! بينما تتحول القرية إلى فضاء مغلق أشبه بفيلم "القرية" الأمريكي، حيث يحكم كبار السن السيطرة بإثارة الخوف من كائنات خيالية. 

*ثيمات الرواية: بين التاريخ والتابوهات 

لا تكتفي الرواية بسرد الحكايات الفردية، بل تنسج خيوطا بين "الذنب الجماعي" و"القمع السياسي"، حيث تلام شخصيات الرواية على مصائبها، بينما يظهر نظام عبد الناصر كخلفية قاتمة تزيد من معاناتهم. كما تستحضر الرواية تقنيات سردية من أدب "غابرييل غارسيا ماركيز"، خاصة في مشاهد "الفضائحية"، حيث تكتب أسرار الناس على جدران منازلهم كعقاب علني. 

الخاتمة: لماذا تستحق "صلاة القلق" جائزة البوكر؟ 

في النهاية، تظل رواية"صلاة القلق" للروائي المصري محمد سمير ندا" رواية تستفز القارئ بجرأتها السردية وعمقها الرمزي. فهي لا تقدم مجرد حكاية، بل "تشريحًا لواقع مأزوم" عبر شخصيات معقدة، تتراوح جرائمها بين "الخيانة والكذب والقتل والانحطاط الأخلاقي." ببراعة، يحول "محمد سمير ندا" القرية المصرية إلى "كون مصغر" تعكس فيه كل علل المجتمع: من "الفساد السياسي" إلى "القمع الديني" و"الانفصام الأخلاقي". 

ربما يكون السر الأكبر في فوز الرواية بالبوكر هو قدرتها على تحويل "القلق الإنساني" إلى فن أدبي مكتمل، حيث يصبح الخوف من المجهول "صلاةً لا تنتهي". فهل نجد في أعماق هذه الرواية مرآة لمخاوفنا الحديثة؟ سؤال يتركه الكاتب للقارئ، كإرث من القلق الذي لا ينتهي عند آخر صفحة.

*القراءة النقدية: الغموض والرمزية

قراءة نقدية في بنية السرد وتعدد الأصوات

تأتي رواية صلاة القلق للروائي محمد سمير ندا، الفائزة بجائزة البوكر العربية لعام 2025، لتؤكد على قدرة الأدب العربي المعاصر على ابتكار أشكال سردية جديدة تتجاوز القوالب التقليدية. فالرواية تقدم نفسها كنص مفتوح يتفاعل مع القارئ على أكثر من مستوى، بدءا من غموض السرد وتعدد الأصوات، وصولا إلى الرمزية العميقة التي توظف التاريخ والسياسة والمجتمع في بنية فنية معقدة. هذه الدراسة تحاول الغوص في عوالم الرواية المتشابكة، وتحليل أبعاد الغموض والرمز، دون أن تغفل عن لعبة السرد الذكية التي اعتمدها الكاتب.

 *تعدد الأصوات أم توحد الأسلوب؟

يخيل للقارئ في البداية أن صلاة القلق تنتمي إلى الرواية البوليفونية (متعددة الأصوات)، حيث تتعدد الأصوات الساردة والشخصيات المتحدثة من قرية "نجع المناسي"، فتبدو وكأنها تنقل أحداثها من زوايا نظر مختلفة. لكن المفارقة تكمن في أن جميع الشخصيات تتحدث بنفس الأسلوب، المميز بالعمق الفلسفي والنبرة الشاعرية، مما قد يعد خرقا لمبدأ تعدد الأساليب داخل الرواية البوليفونية. ومع ذلك، يشير الروائي صراحة إلى أن "لكل قصة أكثر من حكاية"، وكأن الغموض في السرد مقصود بحد ذاته.

 *غموض السرد وكشف الحيلة الفنية

اعتمد الكاتب على ضمير المتكلم في سرد كل فصل، وتجنب السارد العليم حتى نهاية الرواية. إلا أن المفاجأة تكمن في فصل "هوامش كاتب الجلسات"، حيث نكتشف أن جميع ما قرئ في فصول الرواية هو من كتابة "الحكيم الأخرس"، ابن الممثل الحكومي "خليل الخوجة". يتحدث الحكيم عن عجزه عن الكلام، واستعاضته عن ذلك بالكتابة، حيث يقول:

"أنا كاتب الجلسات.. أعفاني الله من عثرات الكلام يوم وضع لساني في يدي... وخلف الورق تتوارى مشاعر وتختبئ دموع وتحتبس صرخات."

هذا التحول في السرد يكشف أن ما بدا لنا كأصوات متعددة، لم يكن سوى إسقاطات من عقل كاتب واحد، قد يكون مريضا نفسيا، وربما يعالج في مصحة عقلية، مما يضع القارئ في مأزق الشك: هل ما قرأناه حقيقة؟ أم هلوسات عقل مريض؟

ومع ذلك، فإن الكاتب يدفع القارئ نحو القناعة بأن صوت "المجنون" قد يكون أكثر صدقا من أصوات "العقلاء"، خاصة بعد أن يحثه الطبيب "سعدون النساج" –ابن القرية الغائب– على الكتابة بوصفها وسيلته الوحيدة للتعبير والتطهر.

 *الرمزية في الأغاني وتمثال عبد الناصر

عنصر آخر يلفت الانتباه في الرواية هو استخدام أغاني عبد الحليم حافظ –خاصة الوطنية منها– كمداخل لكل فصل. على الرغم من أن "الحكيم الأخرس" كان يعشق الأغاني العاطفية-كما نحن ايضا-، إلا أن التصدير بأغان تعبوية يضع القارئ أمام مفارقة رمزية، تحيل إلى الحقبة الناصرية وتناقضاتها.

كما يظهر تمثال جمال عبد الناصر بوصفه رمزا سياسيا لا يموت، حتى حين يحطم رأسه من قِبل النحال، يظل قائما وشامخا. تقول الرواية:

"لماذا لا يموت الزعيم قبل ذلك فينطفئ فتيل الحرب؟"، وهو تساؤل يعكس حجم الظلال الثقيلة التي خلفها النظام الناصري، حتى بعد موته.

 *الغموض كاستراتيجية تأويلية

تتعمق الرواية في الغموض والتلميح دون الانزلاق إلى المباشرة، فبعد هروب "الحكيم الأخرس" مع "شواهين"، لا يعرف أين ذهبا، ولماذا لم يصبهما ما أصاب سكان نجع المناسي من سقوط الشعر بسبب الجذام أو ضوء النيزك. تقول شواهين في الرواية:

"هالني أن شعري لم يسقط، وأن حاجبي لم يزولا كبقية الناس."

هذا الغموض لا يعد ثغرة سردية، بل هو مقصود لذاته، ليبقى باب التأويل مفتوحا، فيتجاوز النص دلالته الظاهرة نحو مستويات أعمق من المعنى.

 *خاتمة:

رواية صلاة القلق ليست مجرد عمل سردي تقليدي، بل هي تجربة فنية محكمة تمارس غوايتها على القارئ، وتستدرجه عبر طبقات من الغموض، والتعدد الظاهري للأصوات، والرموز السياسية والاجتماعية. إنها نص مفتوح على كل الاحتمالات، ويستحق عن جدارة التتويج بجائزة البوكر العربية، بل ويستحق الترجمة لينافس على جوائز عالمية، لما فيه من جرأة سردية، وابتكار فني، وعمق تأويلي نادر في الرواية العربية المعاصرة.

انتهت


مشاهدات 129
أضيف 2025/06/17 - 3:56 PM
آخر تحديث 2025/06/18 - 9:16 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 306 الشهر 11576 الكلي 11146230
الوقت الآن
الأربعاء 2025/6/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير