الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
برونو لاتور: إعادة تعريف النقد


برونو لاتور: إعادة تعريف النقد

عادل الثامري

 

مقدمة

في مقال برونو لاتور Bruno Latour  "لماذا فقد النقد زخمه؟ من مسائل الواقع إلى مسائل الاهتمام" (2004)، يواجه الفيلسوف الفرنسي بجرأة مفارقة النقد الأكاديمي في عصر التشكيك العلمي ونظريات المؤامرة. يتساءل لاتور عما إذا كانت الأدوات النقدية التقليدية، التي ركزت على فضح الحقائق، قد أصبحت عتيقة أمام تعقيدات القرن الحادي والعشرين، حيث تُستخدم تقنيات مماثلة لتقويض الإجماع العلمي. من خلال تمييزه بين "مسائل الحقائق" و"مسائل الاهتمام"، يدعو لاتور إلى إعادة تصور النقد كأداة تجميع وتوليد إبداعي، لا كآلية تفكيكية فحسب، مُقدمًا رؤية ثورية لدور النقد الفكري في مواجهة تحديات العصر.

ازمة النقد: دعوة برونو لاتور للتجديد

يبدأ لاتور بالتساؤل عن قيمة الاستمرار في الأشكال القديمة من النقد: "هل يجب أن نكون في حرب أيضًا، نحن العلماء والمثقفين؟ هل حقًا من واجبنا إضافة أطلال جديدة إلى حقول الأطلال؟ هل حقًا أن مهمة العلوم الإنسانية إضافة التفكيك إلى التدمير؟ مزيد من التقويض الرمزي إلى التقويض الرمزي؟" (ص 225). قلقه الرئيسي هو أن النقد الأكاديمي أصبح عتيقًا، ولا يستطيع التعامل مع التهديدات الجديدة بينما يستمر في ممارسة تقنيات قديمة بشكل متكرر—مثل "الألعاب الميكانيكية التي تعيد نفس الإيماءة بلا نهاية بينما تغير كل شيء من حولها" (ص 225).

يعترف الفيلسوف بتورطه في هذه المشكلة. فقد أمضى جزءًا كبيرًا من مسيرته في إثبات بناء الحقائق العلمية اجتماعيًا، لكنه الآن يشهد بخيبة أمل كيف تُستخدم الحجج نفسها من الذين ينكرون تغير المناخ لصناعة الشكوك: "يعتقد معظم العلماء أن الاحتباس الحراري [العالمي] ناتج إلى حد كبير عن الملوثات من صنع الإنسان التي تتطلب تنظيمًا صارمًا. ويبدو أن السيد لانتز [استراتيجي جمهوري] يعترف بذلك عندما يقول إن 'النقاش العلمي يقترب من الانغلاق ضدنا.' ومع ذلك، فإن نصيحته هي التأكيد على أن الأدلة ليست كاملة."(ص،226). وتأملا في هذا، يسأل لاتور: "لم أنا قلق يا ترى؟ لقد قضيت بعض الوقت في الماضي محاولًا إظهار 'عدم اليقين العلمي' المتأصل في بناء الحقائق. وأنا أيضًا جعلت منه 'قضية أساسية'. ولكنني لم أكن أهدف بالضبط إلى خداع الجمهور من خلال إخفاء يقين حجة مغلقة—أم أنني فعلت؟" (ص. 227). ويتساءل ما إذا كان الأكاديميون قد أصبحوا "متأخرين في حرب واحدة، متأخرين في نقد واحد" (ص. 225)، ومن ثم فاتتهم ساحات المعركة الحقيقية في الخطاب المعاصر.

في صلب حجة لاتور، هناك تمييز بين 'مسائل الحقائق' و 'مسائل الاهتمام'. كان النقد التقليدي يركز على فضح مسائل الحقائق، إما من خلال إظهار أنها تنبؤات اجتماعية أو من خلال الاستناد إلى آليات سببية بديلة. لكن هذه المقاربة، كما يرى لاتور، تفشل في التعامل مع الشبكات المعقدة من العلاقات التي تشكل أكبر قضايا حياتنا. ويقول "حجتي هي أن شكلًا معينًا من الروح النقدية قد أرسلنا في المسار الخطأ، مشجعًا إيانا على محاربة الأعداء الخطأ [ …]  لم تكن المسألة يومًا هي الابتعاد عن الحقائق، بل الاقتراب منها أكثر، ولم تكن محاربة التجريبية، بل على العكس، تجديد التجريبية" (ص. 231).

يسترجع لاتور الأصل اللغوي لكلمة "thing" (الشيء)، بوصفها تشير إلى كل من "الشيء" بوصفه كائنًا ماديًا، و"التجمع" أو "الاجتماع" بوصفه فعلًا اجتماعيًا لحل النزاعات. وهذه الدلالة المزدوجة تُلمّح إلى مقاربة أكثر إنتاجية للنقد". والان، أليس من غير المعتاد أن المصطلح العادي الذي نستخدمه للإشارة إلى ما هو موجود خارجا (، بلا شك، شيء، ما يقع خارج نطاق أي نزاع أو لغة، هو أيضًا أقدم كلمة استخدمناها جميعًا للإشارة إلى أقدم المواقع التي تعامل فيها أسلافنا وحاولوا تسوية نزاعاتهم؟ فالشيء، بمعنى ما، هو كائن هناك، وبمعنى اخر، هو قضية قائمة داخلا، أو على أي حال، تجمّع (ص. 233).

ويستخدم لاتور تعبير "خارجا اوهناك" للإشارة إلى المعنى الشائع لكلمة "thing” بوصفها شيئًا ماديًا موجودًا في العالم الخارجي، مستقلًا عن اللغة والنقاش البشري؛ أي بمعنى "الواقع الموضوعي" أو "الحقيقة الملموسة". وفي المقابل، يُوظف " داخلا او هنا" ليعيدنا إلى الأصل الاشتقاقي الأقدم لكلمة "thing"، الذي يشير إلى مكان الاجتماع أو محفل للنقاش والحكم (كما في الكلمة الإسكندنافية القديمة þing)، حيث كان الناس يجتمعون لحل النزاعات واتخاذ القرارات.) وبهذا، يلفت لاتور النظر إلى أن "شيء" ليس فقط جسمًا ماديًا خارج النقاش، بل يمكن أن يكون أيضًا قضية تجمع حولها الناس، وتحمل في طياتها علاقات ومخاوف ودلالات إنسانية.

يقدّم برونو لاتور مثالًا ملموسًا لتحوّل الكائن (object) إلى شيء (thing) من خلال حادثة احتراق مكوك الفضاء كولومبيا عام 2003. ففي لحظة، يتحوّل هذا المكوك، الذي كان يُنظر إليه على أنه آلة متقنة الصنع ومعروفة ومنسية إعلاميًا، ومأخوذة كأمر واقع (matter of fact)، إلى شظايا تتساقط فوق الأراضي الأميركية، وتُعامل فجأة بوصفها أدلّة حسّاسة في تحقيق علمي وقضائي. هنا، وفقًا للاتور، لم يعد المكوك مجرد "كائن" تقني صامت، بل أصبح "شيئًا" يُثير القلق الجمعي، يُعاد تجميعه من الطين والمطر، ويُوضع في قاعة ضخمة بوصفه محورًا للاهتمام، والحزن، والتساؤل، والعلم، والسياسة. لقد انتقل من السكون إلى الحضور الثقيل في الوعي العام، وبهذا المعنى تحقّقت تشيئيته أي تحوّله إلى شيء. ويستدعي لاتور هنا تأملات هايدغر في أن "الشيء" ليس مجرد كيان مادي، بل موضع التقاء الأربعة المتحدة: الأرض والسماء، الآلهة والبشر. فعندما يتحطّم الشيء، لا يتحطم شكله المادي فحسب، بل يتفكك التجمع الذي كان يوحّده، ويصبح أثرًا حيًّا على هشاشة العلاقة بين الإنسان والعالم، بين السيطرة والقصور، بين المعرفة والفاجعة. ص. 234–235)

يتجاوز الموقف النقدي الجديد الذي يدافع عنه لاتور ما يصفه بالمقاربة النقدية النموذجية: يقدم برونو لاتور نقدا ساخرا وعميقا لما يُعرف بـ"النقد الحداثي" أو "النقد التفكيكي "، الذي يضع الناقد في موقع العارف الأوحد، مقابل "المؤمنين السذج" الذين يتمسكون بعقائدهم أو رموزهم أو أشيائهم التي تحمل لهم معنى. في البداية، يصف لاتور كيف يُنظر إلى الناس الذين يؤمنون بقوة بأشيائهم — سواء كانت هذه الأشياء آلهة أو قصائد أو طقوسًا دينية أو رموزًا ثقافية — على أنهم "سذّج". هؤلاء الناس يربطون أنفسهم بأشياء تمنحهم المعنى والفعلو الدافع والهوية. ولكن هنا يتدخل الناقد "الحداثي"، ويقوم بما يشبه "فضح الحقيقة". يستخدم أدوات النقد ليدّعي أن هذه الأفعال ليست ناتجة عن تلك الأشياء، بل هي مجرد إسقاطات نفسية من داخل المؤمنين أنفسهم. فـ"الآلهة" و"الشعر" و"الأشياء العزيزة" تصبح فجأة أوثانًا أو فِتَشات، لا قيمة لها إلا بما أسقطه عليها هؤلاء الناس من أوهام. وهنا تتم "إهانة" هؤلاء المؤمنين، لأن الناقد يزعم أنه وحده يرى ما لا يرونه.

لكن لاتور لا يتوقف هنا. بل يسخر من الضربة الثانية التي يوجهها هذا النقد الحداثي لهؤلاء الناس. فبعد أن يجعلهم يبدون كمخدوعين بذواتهم، يعود ليقول إنهم ليسوا حتى مخدوعين عن وعي، بل إن كل سلوكهم، وكل أفعالهم، مُحدَّدة مسبقًا بقوى موضوعية وتاريخية واقتصادية واجتماعية ونفسية، لا يملكون أمامها أي خيار. وهكذا، يُحرمون حتى من "الوهْم الجميل" بأنهم فاعلون. هم، في النهاية، ليسوا سوى منتجات لعوامل لا يرونها، لكن الناقد يراها جميعًا. بكلمات أخرى، يفضح لاتور بأسلوب تهكمي الموقف التناقضي للنقد الحداثي: من جهة يسخر من الناس لأنهم يعتقدون أن لأشيائهم (الدينية، الجمالية، الرمزية) قوة أو معنى، ومن جهة أخرى يسلبهم أي فاعلية حين يفسر كل أفعالهم بوصفها نتيجة حتمية لبُنى لا يملكون التحكم فيها.

الرسالة الضمنية هنا أن هذا النوع من النقد لا يفتح أفقًا للفهم أو الاحترام أو المشاركة، بل يمارس سلطة متعالية. وهو ما يدعو لاتور إلى تجاوزه من خلال تبني مقاربات بديلة تسمح بفهم الارتباطات بين البشر وأشيائهم دون السخرية منها أو اختزالها.

" (ص،43 - 239)، ويقترح لاتور نقدا يعترف بهشاشة الواقع المُنشأ وتعقيده، فيقول "الناقد ليس هو من يُفكك، بل هومن يُجمّع. الناقد ليس من يسحب السجاد من تحت أقدام المؤمنين السُذّج، بل من يوفّر للمشاركين ساحاتٍ للتجمّع" (ص. 246).

ويقدم لاتور رؤية ثورية لدور النقد الفكري مستوحاة من أفكار آلان تورينغ Alan Turing في ورقته عن الات التفكير، حيث يحاول إعادة تعريف الممارسة النقدية من مجرد أداة تفكيكية إلى آلية إبداعية توليدية ويرى ان النقد أداة توليدية وليست اختزالية: "ماذا سيفعل النقد إذا ارتبط بالمزيد، لا بالأقل، بالضرب لا بالطرح؟ لقد ماتت النظرية النقدية منذ زمن بعيد؛ فهل يمكننا أن نصبح نقديين مرة أخرى، بالمعنى الذي يقدمه تورينغ هنا؟ أي أن نولد أفكارًا أكثر مما تلقينا، أن نرث من تقليد نقدي مرموق لكن دون أن ندعه يموت، أو "ينزلق الى السكون' مثل بيانو لم يعد أحد يعزف عليه" (ص. 248). ينتقد لاتور هنا النزعة التحطيمية السائدة في التقليد النقدي الكلاسيكي التي تركز على تفكيك الأفكار دون تقديم بدائل بناءة، ويدعو إلى تحول جذري في المقاربة النقدية لتكون أداة لإثراء الفكر وتكثيفه بدلاً من تجريده. وعبر الاستعانة باستعارة البيانو الذي يتوقف صوته عندما لا يُعزف عليه، يصور لاتور حالة الجمود التي وصلت إليها النظرية النقدية التقليدية، مشيراً إلى ضرورة إحياء النقد كقوة دينامية قادرة على توليد أفكار جديدة تتجاوز ما ورثناه من تراث فكري. تكمن عبقرية هذا الطرح في اقتراحه مقاربة نقدية لا ترفض التراث الفكري السابق، بل يبنى عليه وينقله إلى مستويات جديدة من التعقيد والثراء، مع التركيز على تتبع الشبكات المعقدة التي تشكل واقعنا بدلاً من مجرد تفكيكها. بهذا المعنى، يصبح النقد أداة للتقريب بين الفكر والواقع، لا للحواجز الفاصلة بينهما.

خاتمة

يدعو لاتور لإحياء النقد كقوة دينامية توليدية، مستوحيًا من أفكار آلان تورينغ حول الآلات المفكرة. بدلاً من الاكتفاء بتفكيك الأفكار، يقترح لاتور نقدًا يُثري الفكر ويُعزز الارتباطات بين البشر و"أشيائهم"، مُركزًا على تتبع الشبكات المعقدة التي تشكل الواقع. هذا التحول من التفكيك إلى التجميع يُعيد تعريف النقد كأداة للتقريب بين الفكر والواقع، مُقدمًا أفقًا جديدًا للعلوم الإنسانية في مواجهة التحديات المعاصرة.

 

 


مشاهدات 143
الكاتب عادل الثامري
أضيف 2025/06/17 - 3:50 PM
آخر تحديث 2025/06/18 - 10:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 333 الشهر 11603 الكلي 11146257
الوقت الآن
الأربعاء 2025/6/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير