السلوك المنحرف بين كبت الداخل وضغط الخارج
فاروق الدباغ
قراءة معرفية سلوكية في ظاهرة تبادل الأزواج في العراق”
في مشهد مروع هزّ وجدان المجتمع العراقي، خرجت إلى العلن قضية تبادل الأزواج في مدينة البصرة، موثّقة بالصوت والصورة، كشفت عن ممارسة لا أخلاقية تورّط فيها أفراد من طبقات اجتماعية تمتلك مستوى تعليمياً ومالياً مرموقاً. غير أن الصدمة الأكبر لم تكن في طبيعة الفعل فحسب، بل في دلالاته الاجتماعية والنفسية العميقة. من زاوية علم النفس المعرفي السلوكي (CBT)، لا نتعامل هنا مع مجرد “فضيحة أخلاقية”، بل مع سلوك غير سوي يعكس أزمة مجتمعية مركبة، وصراعاً داخلياً وكبتاً جمعياً انفجر بطرق صادمة ومربكة.
في عمق البنية النفسية للفرد العربي، وتحديداً في المجتمع العراقي، نجد مساحة مظلمة ومغلقة تُدعى “الثقافة الجنسية”، وهي من المحرمات (Taboo) التي لا يُقترب منها إلا بخوف أو خجل أو قمع. ينشأ الفرد مكبوتاً، مشوّشاً في فهمه لجسده، مذنباً تجاه رغباته، ملاحَقاً بأوامر أخلاقية غير مفهومة المصدر أو المآل. وفي نموذج العلاج السلوكي المعرفي، تتكون معتقدات الفرد الجوهرية منذ الطفولة عبر الأسرة والمدرسة والدين، وهي التي تحدد استجاباته السلوكية لاحقاً. وعندما تكون هذه المعتقدات قائمة على الخوف من الجنس أو العار منه، يتحول السلوك الجنسي إلى حقل ألغام نفسي، يقود إما إلى تطرف في الكبت أو إلى تطرف في التمرد، وكلاهما غير صحي.
وهنا، تظهر أزمة الوعي الأسري. الأسرة العربية – التي يُفترض بها أن تكون حضناً آمناً للتربية والتوجيه – باتت في كثير من البيوت جهاز رقابة مشوّه، لا تربية فيه ولا توعية، بل أوامر ونواهي، وتهديدات أخلاقية دون تفسير. الآباء الغائبون، والأمهات المقيدات بالخوف من العار، والازدواجية بين المعلن والخفي، كلها تولّد وعياً مشوشاً في عقول الأبناء، الذين يبحثون عن القدوة فلا يجدونها، ويطلبون الأمان فلا يُمنح لهم. ووفق مبادئ CBT، فإن غياب النماذج التربوية الصحية يُجبر الفرد على تبنّي أنماط سلوكية بديلة من محيطه الرقمي أو الاجتماعي، حيث المتاح غالباً ليس هو الأصلح، بل هو الأجرأ والأكثر تحريضاً.
وما يزيد الطين بلّة أن المجتمعات العربية، ومنها العراق، تعيش اليوم في مرحلة انتقالية مشوشة. لا هي مجتمعات تقليدية متماسكة، ولا هي مجتمعات حداثية ناضجة. هذا الوضع يولّد ما يسميه علماء النفس بحالة “فقدان المعنى”، حين يشعر الإنسان أن القيم التي نشأ عليها لم تعد تنفع، وأن القيم الجديدة لم تتشكل بعد. وهنا، يدخل الأفراد في دوامات التجريب والرفض والانفلات، بحثاً عن ذاتهم أو عن توازن مفقود. تبادل الأزواج، بهذا المعنى، قد لا يكون رغبة في الشذوذ بقدر ما هو صرخة انفجار داخل مجتمع بلا بوصلة.
وإلى جانب هذه الأزمة التربوية والقيمية، هناك خلل سياسي عميق يسهم في خلق هذا السلوك المنحرف. لقد تحالفت السلطة مع الخطاب الديني الطقسي، لا الروحي، في إنتاج مجتمع يُقاد بالخوف لا بالوعي، ويُحرَس بالخرافة لا بالعلم، ويُضبط بالميلشيات لا بالمؤسسات. فأصبح الدين وسيلة لضبط السلوك الظاهري، بينما يُترك الجوف فارغاً، جائعاً، عطِشاً لمعنى روحي حقيقي. ومع غياب هذا المعنى، ومع تفشي التجهيل المنظّم، وارتفاع خطاب الولاء الأعمى، باتت الخرافة مقدسة، والعلم مُداناً، والتربية الحقيقية مُجرّمة، والبدائل الأخلاقية مختنقة.
وما يجري اليوم في المجتمعات العربية يشبه، بشكل مدهش، ما حدث في الغرب ولكن من مدخل مختلف. ففي المجتمعات الغربية التي سحقها الضغط الرأسمالي، وهيمنة سوق العمل، وارتفاع تكاليف الحياة، ظهرت سلوكيات غريبة مثل “مجتمعات الكلاب البشرية” (puppy play) – حيث يختار بعض الأفراد، ومنهم حملة شهادات عليا، أن يعيشوا ككلاب، يرتدون الأقنعة ويسيرون على أربع ويطلبون من أشخاص آخرين أن يقودوهم في الشارع كأنهم حيوانات. يبدو هذا الفعل مجنوناً، لكنه في عمقه تعبير صامت عن رفض نظام الإنتاج الذي حوّل الإنسان إلى آلة، وعن تمرد على “الديمقراطية” التي لم تمنحهم الأمان النفسي.
السلوكيات الشاذة، سواء في البصرة أو لندن، ليست مجرد انحرافات أخلاقية، بل هي رسائل صامتة من أفراد يشعرون أنهم مُحاصرون في نظام لا يعترف بوجودهم الحقيقي. إنها احتجاج صامت، وإن كان مريضاً، على واقع متوحش ومجتمع مخادع.
إن ثقافة الخوف، والقمع، والصمت، والتجهيل، التي ما تزال تحكم مجتمعاتنا العربية، هي الجدار الأخير الذي يمنع التغيير الحقيقي. لا يمكن إصلاح هذه السلوكيات دون أن نخترق هذا الجدار. ومن منظور العلاج السلوكي المعرفي، فإن كل سلوك منحرف يعكس نمطاً معرفياً مشوهاً، لا يُعالج بالقوانين فقط، بل بإعادة بناء الإدراك، وتغيير المعتقدات الجذرية، وتمكين الأفراد من الوعي بذاتهم وبحقوقهم وبمسؤولياتهم.
وفي الختام، إن ظاهرة تبادل الأزواج في العراق ليست مجرد حادثة فردية أو لحظة عابرة، بل مؤشر خطير على مرض اجتماعي عميق. إنها ليست السبب، بل العرَض. والمؤسف أن أغلب السياسيين وصنّاع القرار ما زالوا يظنون أن الحل في الأمن والسلاح، بينما الحل الحقيقي يبدأ من التربية، ومن إعادة الاعتبار للعقل، للعلم، للوعي، للقدوة، وللحق في السؤال والاختلاف.
تبادل الأزواج في العراق ليس مجرد شذوذ سلوكي، بل صرخة مجتمع مسجون في قمقم الطابوهات، والممنوعات، والخرافات.
وإذا لم نصغِ إليها بعقل، فستصرخ غداً بصوت أعلى، وبسلوك أشد غرابة.