هانغ كانغ.. تتحدى القوالب الفنية في رواية النباتية
عصام البرّام
تُعد رواية النباتية للكاتبة هانغ كانغ Han Kang)) واحدة من الأعمال الأدبيىة الآسيوية البارزة في القرن الواحد والعشرين، التي عبّرت عن التمرد الصامت ضد السلطة الاجتماعية والجسدية، نُشرت الرواية لأول مرة عام 2007، باللغة الكورية، وقد نالت شهرة عالمية بعد فوزها بجائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت لاحقاً الى عدة لغات، بفضل المترجمة الإنجيليزية التي قامت بها (Deborah Smith)، تدور الرواية حول تحول بطلتها (يونغ هاي) من إمرأة عادية في المجتمع الكوري المحافظ الى شخصية ترفض تناول اللحوم، بعد ترى في منامها حلماً دموياً، ومن ثم تتجه الى نوع من الانفصال التام عن الجسد والعالم، في رحلة وجودية عميقة وصادمة. ومن خلال هذه القصة الفريدة، تفتح هانغ كانغ الباب أمام قراءات متعددة تتوزع بين الابعاد الفنية والدلالات الرمزية والأدبية.
الأبعاد الفنية في الرواية
الرواية مؤلفة من ثلاثة أجزاء، كل منها يروي من منظور مختلف. فالرواية، تروي من منظور زوج (يونغ هاي) الذي يرى في قرارها نوعاً من الإزعاج والعارالاجتماعي. ثم شخصية الرسام، الذي يروي من وجهة نظر صهرها، وهو فنان يستغلها كمادة لمشروع فني يتجاوز الحدود الأخلاقية. والجزء الثالث، هي أشجار اللهب وتُعد تورية عن شقيقتها الكبرى (إن هاي) التي تحاول إنقاذها من إنهيارها العقلي.
من الناحية الفنية، تعتمد رواية النباتية على تقنية السرد المجزّء واللغة الشعرية، حيث تروي من خلال ثلاث وجهات نظر مختلفة؛ زوج البطلة، وصهرها، وأختها الكبرى. هذا التعدد في الأصوات السردية لا يضيء فقط على تطور شخصية (يونغ هاي) ، بل يعكس أيضاً كيفية رؤية المجتمع لها، ويكشف عن الأنانية واللامبالات التي تحيط بها. (هذا التعدد السردي يُضفي بعداً درامياً ويعكس تحوّل وجهات النظر تجاه (يونغ هاي)، من اللامبالاة الى التشيء ثم الى الشفقة). كما يقول الناقد الأدبي البريطاني(بودي ماكس).
اللغة التي تستخدمها الكاتبة كانغ تتسم بالإقتضاب والشاعرية في آنِ معاً، حيث تُعبر بسلاسة عن العنف الكامن في الحياة اليومية، والمشاعر المعقدة التي تنشأ في العلاقات الإنسانية. أما الصورة الفنية، خاصة تلك المرتبطة بالطبيعة والجسد، تُستخدم بكثافة لتشكل عالم روحي موازِ لعالم الواقع. الرواية لا تُروى من صوت المرأة نفسها، بل من أصوات من حولها كأن العالم لا يسمع صوتها، بل يراقب سقوطها في صمت، فاللغة التي تستخدمها هانغ كانغ، مفعمة بالتوتر والنعومة في آنِ واحد، فالكتابة عندها دقيقة كالشفرة، جافة أحياناً، لكنها قادرة على إختراق النفس.
الأبعاد النفسية: الجنون كتحرر
الرواية تتعمق في البنية النفسية لشخصية (يونغ هاي) ، التي تبدأ رحلتها مع قرار التوقف عن أكل اللحوم إثر حلم دموي مرعب، لكن هذا القرار يتحول الى رفض شامل للسلطة الجسدية والاجتماعية. ثم تتدرج حالتها النفسية من العزلة والقلق الى الإنفصال التام عن الذات والواقع، في عملية يمكن قراءتها كتعبير عن إكتئاب حاد أو آضطراب ذهني، لكنها في الوقت ذاته تمثل ثورة صامتة ضد السجن المجتمعي. من خلال ذلك، تطرح الرواية أسئلة كبرى عن الحرية الفردية والهويات المتمردة، وعن حدود ما يُعتبر (طبيعياً) أو (مقبولاً) في السياق الثقافي الكوري، الذي يميل الى المحافظة والأمتثال.
الحلم الدموي الذي تراه (يونغ هاي)، حيث تصف أشلاء الحيوانات والدم ينزف من فمها، هو نقطة التحوّل التي تدفعها الى رفض تناول اللحوم. كما في نص الرواية: ( لقد رأيت دماً، رأيت لحوماً تتفكك، شعرت بأنني كنت آكل نفسي). لكن الأمر لا يتوقف عند هذا القرار الغذائي، بل يتطور الى رغبة في التحول الى نبات. هذا الرفض للجسد البشري ولرغباته يُفسر على أنه نوع من التمرد النفسي ضد القيود الاجتماعية، ولكن أيضاً كتعبير عن ألم عميق دفين. إن الرواية تستدعي في طياتها قراءات فرويدية، حيث يتماهى الكبت الجنسي مع الرفض الغذائي، ويتحول اللاوعي الى أداة مقاومة، وفي النهاية ، تنغلق (يونغ هاي) على عالمها، وتغدو كائناً غير إنساني، نباتياً بالمعنى الوجودي. تقول وهي في المصحة: (لا أريد جسداً. لا أحتاج الى لحم. الأشجار لا تُقل دعوها لتعيش).
الدلالات الأدبية والرمزية، الجسد والسلطة والمجتمع
تحمل الرواية رمزية عالية جداً، (فالنباتية هنا ليست فقط موقفاً غذائياُ) بل هي صرخة رمزية ضد العنف، لا سيما العنف الذكوري والإجتماعي، بدءاً من العنف الغذائي وإنتهاءاً بالعنف الأسري والمجتمعي، والى الرغبة في التحول الى كائن غير مؤذِ، نقي، بل وحتى نباتي، (بالمعنى الحرفي المجاز). تحاول البطلة أن تتحرر من جسدها، من شهوتها، من كونها كائناً أنثوياً يُستهلك. فالجسد الأنثوي يتحول الى ساحة صراع، حيث يُستغل ويُعاد تشكيله بحسب هوى الآخرين.
تُمثل الرواية أيضاً صراع الفرد مع السلطة الأبوية والبطريركية، فشخصية الزوج، على سبيل المثال، ترى (يونغ هاي) مجرأداة للراحة الشخصية، لا ككائن مستقل. أما الصهر فيحولها الى مشروع فني مشوّه، في النهاية تنفلت (يونغ هاي) من هذه الشبكة عبر إنهيارها العقلي، وكأن الجنون هو السبيل الوحيد للحرية. في إسقاط عصري على قضايا المناخ والحقوق الحيوانية، كذلك، تفتح أيضاً تأويلات بيئية، حيث يمكن إعتبار رفض أكل اللحوم إعتراضاً على العنف البيئي والإستهلاكي، في إسقاط عصري على قضايا المناخ والحقوق الحيوانية.
الزوج على سبيل المثال، يعبر عن إحباطه قائلاً: (كل ما أردته منها أن تكون زوجة عادية. إمرأة تطهو لي وتخدمني. ما الذي حصل لها فجأة؟) أما الصهر، فيستخدم جسدها كلوحة جنسية من دون وعيها الكامل، في إسقاط واضح على العنف الجنسي الرمزي والفعلي. وكأن الكاتبة تقول، إن الجسد الأنثوي في الثقافة الذكورية يُستثمر كموضوع لا كذات.
تأثير الرواية وأهميتها الأدبية
من خلال روايتها، تُعيد هانغ كانغ تعريف حدود الرواية الكورية المعاصرة، حيث تدمج بين الحس الفلسفي والطرح النسوي والقلق الوجودي، وتُعد روايتها النباتية من أبرز الامثلة على الرواية التي تتحدى القارئ فكرياً وعاطفياً، فهي تجربة جمالية ونفسية غير مريحة، ولكنها ضرورية لكل من يؤمن بقوة الأدب. كما ألهمت الرواية العديد من الدراسات الأكاديمية التي تناولتها من زوايا ما بعد الإستعمار، النسوية ، البيئية، والتحليل النفسي، لتغدو واحدة من أكثر الروايات الكورية دراسةً وتفكيكاً في الغرب.
الفن كتحدِ للواقع والقوالب الفنية
رواية النباتية ليست فقط قصة عن الجنون أو الإنعزال، بل هي عمل أدبي يتحدى القوالب الثقافية والجنسية والاجتماعية، عبر لغة حسية وعميقة، وتصوير نفسي معقّد، تقدم هانغ يانغ نقداً مريراً للمجتمع الحديث، وتطرح تساؤلات وجودية حول معنى الإنسان والحرية والجسد والهوية. في النهاية، تبقى النباتية رواية مفتوحة على التأويل، تلامس القارئ من زوايا متعددة، وتبقى محفورة في الذاكرة كصرخة ناعمة ولكنها مزلزلة ضد كل أنواع القهر الممنهج.
رواية النباتية هي إستعارة كبرى عن التمرد الهادئ ضد السيطرة الذكورية، والخروج من نمط الحياة المستهلكة التي تفرضها المجتمعات الحديثة، وهي أكثر من مجرد رواية الامتناع عن الطعام أو إنهيار نفسي، إنها عمل أدبي بالغ الرمزية، يُدين العنف البنيوي في المجتمعات المحافظة، ويُجسد صرخة أنثوية في وجه التملك والإستغلال، بأسلوب سردي مميز ولغة تختلط فيها الواقعية والرمزية، فهنا تقدم هانغ كانغ عملاً جديراً بالتأمل والقراءة المتأنية، يُعيد مسآءلة معنى الإنسانية والجسد والحرية.