الخيانة والفساد وجهان لعملة واحدة
رشيد العجيل
لا يغيّر الإنسان أمّه أو أبيه ولا يقايض عليهما مهما اشتدّ الفقر أو زادت الإغراءات، فكيف له أن يساوم على وطنه؟ الوطن ليس مجرد قطعة أرض أو علم يُرفع بل هو الذاكرة الجماعية واللغة والتاريخ والمستقبل. هو الأم التي تمنح بلا مقابل وتحمل أبناءها حتى لو عقّوها. ومع ذلك نرى من يبيع الوطن كسلعة في سوق المصالح.
العراق ليس بلداً ميتاً ولا شعبه شعب خرافات كما يروج البعض. بل هو أمة حيّة، تملك كل مقومات النهوض وبرهن العراقي على قدرته في الشجاعة والإبداع. ففي الخارج، أينما هاجر أبناء العراق، لمعوا في الجامعات والمستشفيات الكبرى والشركات العالمية ووسائل الاعلام وأثبتوا كفاءتهم واقتدارهم مما يدل بوضوح على أن المشاكل لم تكن يوماً في الشعوب بل في البيئة التي قد تعيق الطاقات وتطفئ روح المبادرة.
في العقود الأخيرة خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بدأت تتكشف ملامح فساد غير مسبوق تجاوز حدود المال العام إلى تفكيك مؤسسات الدولة ذاتها. أصبحت المناصب تباع وتشترى وتحوّل الولاء بعيداً عن الوطن والشعب إلى مسميات مصطنعة. ارتكاب الخيانة ليس عبر الانقلابات العسكرية فقط بل يمكن ان يكون من خلال تقنين الفساد وتطبيع الاستغلال وتشريع النهب المنظم لثروات البلاد.
الخيانة ليست فقط تسريب معلومات أو التآمر مع العدو بل هي أيضاً التخلي عن أبسط مسؤوليات القيادة وفي مقدمتها أن تخدم شعبك وتحمي حقوقه. حين يُترك المواطن بلا دواء أو تعليم أو كهرباء بينما تُحوّل المليارات إلى حسابات خاصة فتلك خيانة. حين يتم التجاوز على السلم الأهلي فهذه خيانة وحين تُفرّط الأرض مقابل دعم سياسي خارجي فهذه خيانة. وحين يُغيب القانون لصالح الفوضى المدروسة ويتحوّل الإعلام إلى أداة تبرير فهذه قمة الخيانة.
وليس العراق وحده من يعاني بل إن المشهد يتكرر وإن بأشكال مختلفة في دول كثيرة. في بعض الدول الفساد مغلّف بالاستقرار وفي أخرى بالخوف من البديل. تُنهب ثروات الأمة وتُقمع الشعوب وتُشوَّه الصور بينما يُقدَّم الولاء الزائف كبديل عن الكفاءة.
ما يحدث في هذا النوع من الخيانة هو تفريغ لمفهوم المواطنة من محتواه وتفكيك للرابطة التي تربط الإنسان بوطنه. وإذا انقطعت هذه الرابطة، فلا مستقبل لأي دولة لأن الأوطان لا تُبنى على الشعارات بل على الثقة المتبادلة وعلى شعور المواطن بأن وطنه لا يخذله.الوفاء للوطن لا يكون فقط برفع الأعلام ولا بتكرار الكلام بل بمواقف حقيقية وأن ترفض الفساد حتى لو كلّفك ذلك منصبك أن ترفض خيانة المبادئ ولو ضد تيار المصالح.
لقد أصبح من الضروري أن نُعيد تعريف الوطنية كقيمة حية وأن نفرق بين من يخدم الوطن ومن يخدم نفسه باسمه.
لذلك لا خلاص لنا إلا بإحياء معنى الوفاء للوطن ومحاسبة كل من خان الأمانة واستعادة العلاقة الطبيعية بين المواطن وأرضه على أساس العدالة والكرامة.فالوطن ليس للبيع مهما كان الثمن.