الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
طبيب بلا أدوات .. من الدراسة للحفظ إلى إدارة لا تُعلَّم

بواسطة azzaman

حين تبدأ الأزمة قبل المعطف الأبيض

طبيب بلا أدوات .. من الدراسة للحفظ إلى إدارة لا تُعلَّم

أسامة أبو شعير

 

في العراق، لا يبدأ التحدي حين يرتدي الطالب المعطف الأبيض، بل قبل ذلك بكثير، في فصول دراسية ضيقة تُدرّس الحلم على أنه معادلة رياضية: اجمع أعلى عدد من الدرجات، تصل إلى كلية الطب، ثم… تكتشف أنك وصلت بلا أدوات.

ما رواه الطالب علي، وهو الآن في سنوات دراسته الإكلينيكية في كلية الطب، ليس حالة شاذة. بل هو نموذج متكرر لجيل طموح، تفوّق رقميًا في الدراسة، لكنه ما إن دخل بوابة الكلية حتى اكتشف أن ما تعلمه لم يُعِدّه ليكون طبيبًا، ولا حتى إنسانًا متزنًا في بيئة منهكة.

من “الـ99.7 بالمئة” إلى بيئة طاردة

يقول علي إنه، في المرحلة الإعدادية، اضطر لدراسة مواد لا تمت بصلة لاختصاصه الطبي، مثل اللغة العربية والتربية الإسلامية، بطريقة تلقينية قائمة على الحفظ والتكرار، بينما حُرِم من دراسة مواد حيوية كالإدارة أو الاقتصاد، رغم أنها تدرّس في الفرع الأدبي فقط. والأدهى من ذلك أن النظام ما يزال يفترض أن طالب الفرع العلمي لا يحتاج هذه المهارات… وكأن الطب خالٍ من الإدارة، وكأن الطبيب لا يُطلب منه يومًا أن يقود مؤسسة أو يدير فريقًا طبيًا.

في المدرسة، لم يكن الدرس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق “99.7 بالمئة”، وهي النسبة التي تُعتبر الحد الأدنى الفعلي للقبول في كلية الطب. حتى المعلمين، في كثير من المدارس، أصبحوا يتعاملون مع الصفوف على أنها إعلان مجاني لدروسهم الخصوصية. وما إن يصل الطالب إلى الكلية، حتى يجد نفسه أمام نظامٍ أكاديمي مفصول عن الحياة العملية: محاضرات تُلقى من شرائح قديمة، وامتحانات لا تمتّ بصلة لما يُدرَّس، وتقييمات تخضع لمزاج الدكتور أكثر من معايير أكاديمية واضحة.

بقاء نفسي

علي يذكر موقفًا بسيطًا، لكنه كاشف: “الامتحان كان فوق الخيال، لا علاقة له بما شرح الدكتور… وكأن علينا أن نخمن لا أن نفهم”. ومع ذلك، لا أحد يراجع، ولا أحد يعتذر. الطب، كما يبدو في بيئتنا التعليمية، ليس علمًا يُبنى على البحث والمهارة، بل اختبارًا صعبًا للبقاء النفسي. كثير من الأساتذة، كما يروي، يتعاملون مع الطالب على أنه منافس لا متعلم، ويحرصون على أن يشعره بأنه أقل من أن يستحق لقب “طالب طب”. وهكذا، بدل أن تكون الكلية فضاءً لاكتشاف القدرات، تتحول إلى بيئة طاردة، تثقل كاهل الطالب قبل أن يدخل الحياة العملية.

المشكلة لا تقف عند التعليم، بل تمتد إلى ما بعد التخرج. فالمعادلة أصبحت مقلوبة: كثافة في أعداد الخريجين، مقابل سوق متشبع، ومستشفيات لا تكاد تفي بالحد الأدنى من التوظيف، وتعليم أهلي يضخ المئات سنويًا دون تخطيط. التعيين تحوّل إلى سباق محموم، يتساوى فيه من حصل على 98بالمئة مع من حصل على 80 بالمئة، والنتيجة: إحباط جماعي لا يفرق بين مجتهد ومستهتر، بل يعاقب الاثنين معًا.وما يعمّق الأزمة أكثر هو أن أعداد القبول المتزايدة لا يقابلها توسّع حقيقي في البنية التحتية السريرية. فالكليات تضخ آلاف الطلاب، بينما المستشفيات التعليمية لا تملك القدرة الفعلية على استيعابهم في برامج تطبيقية تليق بمعايير التدريب السريري. والنتيجة أن كثيرًا من طلبة الطب يتحولون إلى “موظفين نظريين”، يدرسون دون أن يمارسوا، ويُختبرون دون أن يُشاهدوا الحالات على أرض الواقع. إن غياب التناسب بين سياسة القبول والإمكانيات التدريبية لا يؤثر على مستوى المهارة فحسب، بل يهدد بفقدان الثقة بمخرجات التعليم الطبي نفسه.

مناهج بلا إدارة… وقيادات بلا تدريب

وفي ظل هذه الفوضى، يبرز سؤال مسكوت عنه: من يدير هذه المؤسسات؟ وهل الطبيب الذي تخرّج في بيئة تعليمية قائمة على الحفظ والتلقين، مؤهل أصلًا لإدارة مستشفى؟ هل لدينا في العراق ما يكفي من الأطباء الذين فُتحت أمامهم أبواب علم الإدارة الصحية؟ أم أننا نلقي بهم فجأة في مواقع قيادية دون تدريب أو إعداد؟

عدد من الأطباء العراقيين ممن عارضوا قرار وزارة الصحة الأخير بحصر إدارة المؤسسات الصحية بالأطباء فقط، يوءكدون أن الطبيب غير المؤهّل إداريًا قد يُربك العمل بدل أن يقوده.

لقد كان خريجو كليات الطب العراقية، حتى أواخر السبعينات، يُعادَلون مباشرة بالبورد البريطاني دون الحاجة لاجتياز اختبارات إضافية، ما يعكس حجم الثقة الدولية بجودة التعليم الطبي في العراق آنذاك. لكن هذه الثقة تراجعت مع غياب التحديث، وابتعاد النظام التعليمي عن المعايير العالمية، وغياب الرؤية الاستراتيجية لإدارة هذا المورد البشري.

وإذا أردنا استعادة ذلك المستوى، فالإصلاح لا يكفي أن يكون نظريًا أو مجتزأ، بل يحتاج إلى مسار تنفيذي واضح يبدأ من المدرسة ولا ينتهي بالمستشفى. من بين الإجراءات القابلة للتطبيق:

تأسيس وحدة وطنية مشتركة بين وزارتي التعليم العالي والصحة، تتولى مواءمة مخرجات التعليم مع حاجات النظام الصحي.

اعتماد معايير وطنية موحدة للتدريب السريري، تحدد الحد الأدنى من المهارات المطلوبة وساعات الممارسة الفعلية. •إدماج مقررات الإدارة والاقتصاد الصحي ضمن السنوات السريرية، بالتعاون مع مختصين من داخل وخارج العراق.

تحفيز الكليات الطبية على الحصول على اعتمادات دولية مثل:

الاتحاد العالمي للتعليم الطبي (World Federation for Medical Education – WFME)، الذي يُعد الهيئة المرجعية لتقييم جودة كليات الطب عالميًا.

مجلس الاعتماد الأمريكي للتعليم الطبي العالي – الدولي (Accreditation Council for Graduate Medical Education – International – ACGME-I)، الذي يمنح اعتمادات للبرامج السريرية المتقدمة وفق معايير التعليم الطبي في الولايات المتحدة.

ولا يمكن لهذه الإجراءات أن تُترجم إلى نتائج فعلية دون أن تكون جزءًا من رؤية وطنية شاملة، تعيد الاعتبار للجودة بدل الكم، وتربط سياسات القبول بسعة النظام التدريبي والمهني، وتُشرك القطاع الصحي الخاص في بناء بيئة تعليمية تطبيقية قادرة على تأهيل طبيب الغد.

خاتمة: الطبيب قائد لا حافظ… والتعليم نقطة البداية

ربما لا نحتاج إلى معجزة بقدر ما نحتاج إلى عقلانية في التخطيط، وإنسانية في التعليم، وواقعية في فهم دور الطبيب في منظومة صحية متكاملة. لا يمكن لأي نظام طبي أن ينهض بطبيب لا يُمنح فرصة الفهم قبل الامتحان، ولا يُدرَّب على القيادة قبل أن يُكلَّف بها، ولا يُحتَرم في قاعة الدرس قبل أن يُطالَب بأن يكون محترفًا في غرفة العمليات.

الإصلاح لا يبدأ فقط من الجامعات، بل من الفكرة التي نحملها عن الطبيب: هل نريده حافظًا أم مبتكرًا؟ تابعًا أم قائدًا؟ فردًا في منظومة متآكلة، أم عمودًا في مؤسسة تتعلم وتتطور؟

حين نعيد النظر في مناهجنا، لا لتقليصها فحسب، بل لإعادة بنائها بما يتناسب مع الواقع الصحي والإداري، وحين نربط بين المعرفة والسلوك، وبين الامتحان والميدان، وبين الطبيب والإنسان… ساعتها فقط، لن نجد أنفسنا نتساءل لماذا ينهار بعض الأطباء، بل سنبدأ برؤية من يصمدون، ويبدعون، ويقودون.

ولعل أول خطوة في هذا الطريق تبدأ بسؤال بسيط:

ماذا لو عاملنا طالب الطب كما نريد أن يعاملنا طبيب الغد؟

  خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية والتنمية


مشاهدات 126
الكاتب أسامة أبو شعير
أضيف 2025/07/21 - 4:20 PM
آخر تحديث 2025/07/22 - 7:57 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 257 الشهر 14164 الكلي 11167776
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير