أذن وعين
عن فن التفاوض لدى دونالد ترامب
عبد اللطيف السعدون
يرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لديه خبرة ستة عقود في تجارة العقارات أن الهدف من التفاوض على عقد صفقة ما ينبغي أن يكون كبيرا ليتسنى إعطاء تنازلات صغيرة إذا ما تطلب الأمر ذلك، وشيئا فشيئا سيحصل المفاوض على ما يريده، وفي حالات قد يكتفي بالقليل لكنه مع استمرار التفاوض سوى يحصل على الكثير مما يطمح له، ترامب يضع في كتابه «فن الصفقة» الذي شاركه في كتابته الصحفي توني شوارتز، ونشر عام 1987 ثلاث قواعد تقوم عليها عملية تفاوض ناجحة، التركيز على طرح الحد الأقصى لما هو مطلوب، والاهتمام بدرء المخاطر التي قد تسبب فشل المفاوضات، والبقاء في حالة مرونة كافية لانجاح التفاوض.
ترامب ينصح من يتصدى للتفاوض أن لا يستسلم لأمر يريد الطرف الآخر فرضه عليه، وأن ينطلق دائما من موقع قوة، وأقوى موقع للقوة هو «امتلاك شيء يريده الطرف الآخر، أو شيء لا يمكنه الاستغناء عنه.»، وغالبا ما تتطلب هذه الميزة خيالا واسعا، ومهارة في التعاطي مع المتغيرات التي قد تفرزها مسيرة المفاوضات الطويلة.
يمضي ترامب في توصيف التفاوض بأنه «فن استراتيجي وليس لعبة» حيث يتطلب من الشخص المفاوض اكتشاف ما يريده خصمه فإذا استطاع أن يجعله يعتقد أن لديه ما يحتاجه بالفعل يكون قد حقق نقطة لصالحه، والأمر يتطلب أيضا كشف بعض نقاط ضعف الطرف الآخر على أن يتم ذلك باستخدام لغة لبقة، من دون أن تكون هناك إساءة. ينصح ترامب الشخص المفاوض أن يجنح الى المبالغة في عرض مطالبه، و«القليل من المبالغة لا يضر أبدًا، والناس يحبون أن يعتقدوا أن هذا الشيء أو ذاك هو الأعظم والأكثر فائدة، على أن تكون المبالغة في نسختها البريئة، ومن دون كذب كي تصبح شكلا فعالا لما تريد ترويجه، ولكن في النهاية، يجب توخي الحقيقة، وإلا سيُعتبرالناس ما تطرحه مجرد خدعة».
رجل قوي
يقول ترامب أنه عندما تتفاوض عليك أن تحمل معك شيئا من العدوانية، و»العدوانية» ليس بمعنى الحقد، وإنما بمعنى النظام والانضباط، وهو شخصيا كان قد تعلم ذلك عندما كان طالبا في الأكاديمية العسكرية في نيويورك، «كان لأحد أساتذتنا تأثير كبير علي.. رجل قوي جدًا، من النوع الذي عندما يصيب المرمى بخوذة رياضة (الرجبي) الخاصة به يكسر العمود، ولم يكن يسمح لأحد بالرد عليه، وسرعان ما أدركت أنه من المستحيل منازلة هذا الرجل، ولذلك اختار معظم زملائي التكتيك المعاكس، واعتمدوا موقفًا خاضعًا، أما أنا فقد اتخذت الطريق الثالث، وبطريقة ما تغلبت عليه، ساعدتني لياقتي البدنية، وما فعلته هو أنني جعلته يفهم أنني أحترم سلطته، ولكنني لا أخافه، لقد كان الأمر يتعلق بالحفاظ على توازن دقيق». ما يمكن استنتاجه من طروحات ترامب أنه يعتمد دائما مبدأ « أنا الرابح، وأنت الخاسر»، وهو يعتقد أن إغراق الطرف الآخر بحيثيات ذلك يجعله يدرك أنه لا بد من الحفاظ على التفاوض عبر تبادلات متوازنة لكن هذا الطرح قد لا يصدق دائما، وهذا ما نلاحظه في تبنيه لفكرة إيقاف الحرب الأوكرانية، وما فهمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو الخبير بحالات كهذه اختبرها أثناء عمله في عالم الاستخبارات إبان الحكم الشيوعي، دفعه لقذف الكرة في ملعب ترامب نفسه، والتلويح بشروطه للتسوية مع كييف.
أما في الحالة الإيرانية فقد حددت واشنطن مطالب «الحد الأقصى» في التفكيك الكامل للبنية النووية، وإيقاف إنتاج الصواريخ البالستية ذات القدرة البعيدة، والتخلي عن الأذرع الميليشياوية الناشطة في أرجاء الإقليم، وسيجاهد الإيرانيون من أجل أن يقتصر التفاوض على «المسألة النووية» لكنهم سوف يرضخون في النهاية لمناقشة المطالب الثلاثة معا، وسيحاولون التخفيف من اشتراطاتها لأدنى درجة ممكنة، وعند هذا المنعطف سيكون على ممثل واشنطن الحفاظ على المرونة في التفاوض، والبحث عن فرص للوصول إلى ما يريده، وهو ما يتفق مع نهج ترامب الوارد في كتابه لضمان نجاح المفاوضات خاصة وأن «العديد من الصفقات قد تفشل مهما بدت واعدة في البداية».
وبالطبع فإن مبعوث ترامب إلى مفاوضات مسقط ثم روما ستيف ويتكوف يكون قد قرأ نصائح ترامب، ويعرف كيف يتعامل بها، وهو مثل رئيسه عمل في مجال الاستثمار وتجــارة العقار. والمثيــر أيضا أن من اختاره المرشد الايراني خامنئي لتمثيله في المفاوضات هو عباس عراقجي الذي نشأ في ظل عائلة ثرية تعمل في تجارة السجاد، وكثيرا ما شهد في متجر أبيه كيف تدار الصفقات، وعرف كيف يصبر الصناع الايرانيون عشرين سنة كي يفرغوا من صنع سجادة واحدة، وهو أيضا بإمكانه أن ينطلق في مسلكه التفاوضي من مبدأ «التقية» المعروف لدى أتباع «ولاية الفقيه».
كل هذا يجعل من مفاوضات مسقط ثم روما حدثا بــالغ الأهمية، وتأثيــراتها قد تمتد عقودا.