الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
جيمس جويس .. الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في يوليسيس


جيمس جويس .. الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في يوليسيس

عصام البرّام

 

 

شكلت رواية يولسيس أوعوليس كما ترجمتها بعض دور النشر الى العربية، كواحدة من روائع الأدب العالمي التي تركت بصمتها على الأجيال اللاحقة، وشكلت إنعطافاً في الأعمال الأدبية فيما بعد، كما صنّفها النقاد في القرن العشرين، وتعد  أبرز أعمال الكاتب الأيرلندي جيمس جويس، حيث تم نشرها في عام 1922، إذ تقع أحداث الرواية في يوم واحد في حياة بطل الشخصية الرئيسية، ليوبولد بلوم، فهي تعتمد على هيكل زمني دقيق وتقنيات أدبية متقدمة وعالية الدقة. فإذا أردنا أن نحدد الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية عوليس، لابد من الإشارة الى هيكل الوقت،  تمتاز هذه الرواية بتقنيات هيكل الوقت المعقدة والمتداخلة الأحداث، وتكون هذه الأحداث في خلال يوم واحد فقط، مما تتضمن تداخلًا ضمنياً مع الذكريات والتفكيرات الداخلية للشخصيات، ليخلق تأثيراً زمنيًا فريدًا، كذلك يعزز عمق السرد وفي معنى أعمق دون ترهل في ثيمة النص والبناء الروائي.

لقد إستخدم جيمس جويس تقنية السرد الداخلي للكشف عن تفكير الشخصيات ومشاعرها الداخلية، مما يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى الرواية، ذلك أن جيمس جويس يتقن الأسلوب اللغوي بشكل استثنائي، ويعد أسلوبه اللغوي غنيًا بالرموز والتشبيهات، إذ يُظهر اللغة بدقة مشاعر الشخصيات والتفاصيل الدقيقة للبيئة التي يعيشون فيها. فالرواية تحتوي على العديد من الرموزالتي تضيف طبقات إضافية من الدلالة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن نهر الليفي يمثل الحياة والتغيير وعدم الاستقرار، حيث يمنح الكاتب صورة تستحق التوقف عندها لمعنى التغير في طبيعة النهر التي يمزج فيه الحياة والتغيير من جهة، وحالة عدم الإستقرار من جهة أخرى كمعادل موضوعي في شخصية البطل القلقة.

كما تتناول الرواية مواضيع مثل الحب والوحدة بشكل فنتازي، وتظهر علاقة بطل الرواية ليوبولد بلوم وزوجته (مولي) بأسلوب معقد، فالكاتب يسعى أن يضع الأثنين تختلط عندهما مشاعر الوحدة والإغتراب، دون المساس بهارمونية تصاعدية في حبكة خيوط الرواية. فرواية (عوليس) تجريبية بشكل كبير في هيكلها وأسلوبها، وتمزج بين الواقع والخيال بطريقة مبتكرة، وتعرض تجارب جديدة في الكتابة، يكاد تفرّد بها جويس لوحده، كما يمكن أن يكون فهم هذه الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية (عوليس) مفتاحًا لتقدير عمق وتعقيد هذه الرواية الأدبية الكلاسيكية. وقد شكك البعض في الحالة النفسية لشخصية الكاتب، إلا إنه ليس هناك دليل قاطع يشير إلى أن جيمس جويس، كان مريضًا نفسيًا، إذ كان معروفًا بتأثير أعماله الأدبية بتفكيره العميق ولغته الغنية، ولم يكن هناك تأكيد مستند أو أدلة تشير إلى أنه كان يعاني من مشاكل نفسية بشكل خاص.

تقنيات الرواية والدلالات الفنية

 إن الرواية تعدّ واحدة من أكثر الأعمال تعقيدًا وعمقًا في الأدب العالمي، تم تأليفها بأسلوب فريد ومتشابك، وتحتوي على تجارب أدبية متنوعة، كما تستند إلى ملحمة هوميروس وتروي حكاية بطل الرواية ليوبولد بلوم، فضلاً عن تميّزها بتعقيداتها اللغوية وهيكلها الفني. فالمتلقي للرواية يلاحظ تسارعاً في الأحداث أو إنخراطًا عميقًا في النص، وقد يكون ذلك نتيجة للأسلوب الأدبي الفريد الذي أختاره جويس للتعبير عن أفكاره ورؤيته الفنية، وليس بالضرورة بسبب مشاكل نفسية في شخصيته.

لقد رسم جميس جويس بطله ليوبولد بلوم بتعقيد كبير، حيث يُظهر جويس الطبائع المتعارضة لشخصية بطله، مما يجعلها بنفس الوقت شخصية غنية ومعقدة، كما تظهر شخصية بلوم في الرواية، كشخص يفكر بشكل عميق ويتأمل في مختلف جوانب الحياة، حيث تتوزع ويتنوع تفكيره بين القضايا العامة والخاصة.

كما يشير جويس الى تعدد الهوايات في شخصية البطل، وهو يعطي هذه الشخصية كرجل متنوع الاهتمامات والهوايات، وهو ينتمي الى عدة جوانب من المجتمع وأفراده الذي يحيطون به من كل المستويات والمراتب الفكرية والطبقات الاجتماعية العادية من شرائح الواقع الذي يعيشه من حوله. ففي فصول الرواية تجد بطله، كيف يتأثر بالبيئة المحيطة به في العاصمة دبلن، وكيف يتفاعل مع الناس والأماكن بطرق مختلفة، مما يلقي الضوء على دور البيئة وتأثيرها في النفس البشرية.

إن جويس، يقدم من خلال شخصية بطله رؤية معقدة للحياة، حيث يتعامل مع مفاهيمها، مثل الوجود والزمان بطرق فريدة ومعقدة. إذ تكمن القوة الرئيسية والبعد الدرامي في كتابات جيمس جويس، من خلال تصويره للأنفعالات الانسانية التي يرسمها في أبطاله،  وما يصطلح عليه (بتقنية تيار الوعي) التي تسمح بتدفق الأفكار ( Stream of Consciousness ) حيث أعتمد جويس في يوليسيس بشكل رئيسي على تقنية تيار الوعي والمشاعر الداخلية للشخصيات، كما تجري في ذهن الإنسان، دون ترتيب منطقي أو تسلسل تقليدي.

تُستخدم هذه التقنية بشكل خاص في تتبع أفكار ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس، بطلي الرواية، وتكشف عن أعماقهما النفسية بأدق التفاصيل. فضلاً عن (التعدد الأسلوبي) فكل فصل في الرواية يُكتب بأسلوب مختلف، من السرد الواقعي الى المحاكاة الساخرة للنثر الصحفي، أو التمثيل المسرحي أو اللغة العلمية، أو التهكم الأدبي، ما يجعل الرواية مختبراً أسلوبياً وتجريبياً بأمتياز. هذا التعدد ليس تزيين لغوي بل يعكس تغيّر الوعي والزاوية التي يُنظر بها الى الأحداث.

أما من الناحية الزمانية والمكانية، تجري أحداث الرواية خلال يوم واحد فقط يوم 16 يونيو 1904، في مدينة دبلن، ومع ذلك فأن هذا الإطار الزمني الضيق يُفتح على مصراعيه من خلال التداعيات والاسترجاعات والتخيلات الذهنية، مما يجعل الزمن الداخلي للرواية أكثر إتساعاً وعمقاً. أما مدينة دبلن، فقد حوّلها جويس الى مدينة أسطورية، ووثقها بجغرافيا دقيقة تعادل في رمزيتها طروادة أو أثينا القديمة.

إن رواية يوليسيس مبنية على هيكل ملحمي يُحاكي الأوديسة لهوميروس. فكل فصل يقابل مغامرة من مغامرات أوديسيوس، لكن جميس جويس، يحوّلها الى معادل يومي عادي، حيث يتحول البحر الى شوارع دبلن، والسفر الملحمي الى جولة في الحانات أو الأسواق. هذه المفارقة بين الحدث العادي والرمز الملحمي تُكسب الرواية طابعاً مزدوجاً من السخرية والتعظيم.

الإنسان ككائن يومي وأسطوري وهوية وأنتماء

إن الرواية في جوهرها، تُعيد لنا يوليسيس بتعريف البطل، إذ لم يعد البطل هو الفارس أو الملك أو الإله، بل هو الإنسان العادي (البطل ليوبولد بلوم) الموظف البسيط اليهودي، الغريب عن المجتمع، الذي يخوض رحلته الذاتية في عالم ملئ بالتناقضات. هذا التحول من البطولة الكلاسيكية الى (بطولة الحياة اليومية) هو جوهر الحداثة.  فالرواية تتناول أسئلة الهوّية الشخصية والوطنية والدينية، بلوم، كيهودي في مجتمع إيرلندي كاثوليكي، يمثل الآخر، والمهمش، والمنفي داخل وطنه. بينما يمثل ستيفن ديدالوس صراع المثقف مع السلطة السياسية والدينية، وبحثه عن (أب رمزي) أو مرشد روحي.

ففي الرواية، تصبح اللغة بطلة بحد ذاتها، تتشكل وتتغير وتتلاعب بالواقع. حيث يتعامل جويس مع اللغة كخامة قابلة للنحت والتشكيل، مما يجعله من أبرز مجددي التعبير الأدبي. هذا الاستخدام المفرط للغة يوصل الى مفارقة التي هي؛ كلما غاصت الرواية في التفاصيل، أقتربت من المطلق والكوني.

إن قراءة رواية يوليسيس ليست نصاً يُقرأ مرة واحدة، بل عمل مفتوح على قراءات متعددة ومتغيرة، قابلة الى التأويل اللامحدود، مما يتيح لكل قارئ أن يخلق تجربته الخاصة به. أما كثافة الإشارات التأريخية والأسطورية والدينية واللغوية تجعل الرواية بمثابة متاهة سردية تحتاج الى تأمل دائم.

يوليسيس ليست مجرد رواية، بل مشروع أدبي وفلسفي وفني في آنٍ معاً. إنها تحدٍ للقارئ، ومغامرة فكرية للكاتب، وتجسد لحلم الحداثة في أن يكون الأدب مرآة عميقة للواقع والخيال معاً. إنها ومن خلال التداخل المعقد بين التقنيات السردية والدلالات الرمزية، قدّم جويس عملاً، ما يزال الى اليوم موضوعاً للبحث والدراسة والجدل والإعجاب.


مشاهدات 61
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/04/29 - 3:09 PM
آخر تحديث 2025/04/30 - 9:42 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 543 الشهر 32625 الكلي 10913272
الوقت الآن
الأربعاء 2025/4/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير