الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بين الفلسفة والمقهى.. قراءة في مجموعة حب وحمّص وثالثهما نيتشه


بين الفلسفة والمقهى.. قراءة في مجموعة حب وحمّص وثالثهما نيتشه

محمد علي محيي الدين

 

في مجموعته القصصية «حب وحمص وثالثهما نيتشه»، يقيم القاص جمال الهنداوي حوارًا حادًّا بين عالمين متناقضين في الظاهر، متجاورين في الحقيقة: عالم الروح والعاطفة والفكر، وعالم اليومي المادي المبتذل. في العنوان وحده تتكثف المفارقة: الحب بما يحمله من طهرٍ فلسفي وعذوبة إنسانية، والحمص بما يرمز إليه من تفاهة الأشياء اليومية وصغائرها، ثم يأتي نيتشه، الفيلسوف الذي وضع المطرقة بيد الفكر ليحطم بها أوثان القيم القديمة، فيغدو ثالثهما، أو قل: الضمير الفلسفي الذي يشهد التوتر بين الجمال والفناء، بين السمو والابتذال، بين الحلم والخبز.

هذه المجموعة ليست حكايات تُروى بقدر ما هي تأملات سردية في معنى العيش. فشخوصها ــ من باعةٍ وعمّالٍ وعشّاقٍ ومهمَّشين ــ تتحرك داخل الواقع لا على هامشه، تعيش تفاصيله وتكتوي بنيرانه، لكنها ترفض أن تكون ضحيةً له. في كل قصة، ثمّة محاولة للخلاص، لا بالهروب من الواقع بل بالتمرّد عليه جمالياً؛ بالبحث عن معنى وسط الركام، عن فتنةٍ صغيرة تبرر استمرار الحياة في وجه الفناء.

يقدّم الهنداوي نصوصه بوعي سردي لا يتكلف الغموض، بل يمزج بين لغة الصحافة وشفافية السرد الأدبي، فيغدو نصّه قريبًا من القارئ، يدخل إليه دون استئذان. لا يحتاج قارئه إلى مفاتيح تأويل فلسفية معقدة، فقصصه تجري على ألسنة أبطال من لحم ودم، نراهم في الشارع والمقهى والمواصلات العامة، يتحدثون بلساننا، ويفكرون بخيباتنا نفسها، ويسألون الأسئلة التي نحاول تناسيها كل يوم.

في هذه القصص صراع خفي بين الجمال والزمن، بين الرغبة في أن يكون للحياة معنى وبين عبثية تكرارها. فالحب هنا ليس ترفًا عاطفيًا، بل شكل من أشكال المقاومة، محاولة لتجميل الخراب، أو إنقاذ الزمن من التكرار العقيم. كل قصة تُعيد مساءلة وجود الإنسان العراقي في واقعه المتشظي، إذ تتكئ على الفلسفة النيتشوية لتسائل فكرة «الخلود» و»القيمة» و»التمرّد»، لكنها تظل متجذرة في الواقع الشعبي، لا تهيم في فضاء التجريد.

تفاهة المعيش

وفي المقابل، يظهر «الحمص» رمزًا للحياة اليومية، للبساطة التي تفضح تفاهة المعيش. بائع الحمص هنا ليس شخصية هامشية، بل ضمير الواقع الأرضي الذي يعارض فلسفة نيتشه في احتقاره للضعف الإنساني، فهو يؤمن بالعيش، بالرزق، باليوم الذي يمرّ، بينما يظل الفيلسوف عالقًا في برجه، يفتش عن الإنسان الأعلى. هذا التقابل بين الفيلسوف والبائع هو لبّ التجربة القصصية عند الهنداوي: جدلٌ بين الوجود المادي والوجود المتعالي، بين من يفكر في معنى الحياة ومن يصنعها يومًا بيوم.

ولا تغرق القصص في البطولات أو النهايات المدهشة، فهي لا تصطنع الدهشة بل تستعيد مألوفية الحياة لتكشف عن عمقها الإنساني. إنّها مرايا صغيرة لوجوه الناس الذين نصادفهم ثم ننسى أسماءهم، لكنها وجوه تسكن الذاكرة، تنطق بما لم نجرؤ على قوله. شخصياتها تتحدث عن آلامها وأوجاعها اليومية، تحاول الانفلات من قيد الفقر والخذلان، تفتش عن معنى العيش بكرامة، عن جمال بسيط يبرر البقاء في عالمٍ تغشاه العتمة.

بهذا المعنى، تتحول المجموعة إلى دعوةٍ للتذوّق لا للفهم، للتأمل لا للتنظير، لأن القاص يريد من القارئ أن يرى العالم لا كما يُشرح، بل كما يُعاش. فنيتشه، في خلفية النصوص، ليس مرجعًا فلسفيًا بقدر ما هو روحٌ تستفزّ الإنسان كي يعيد تعريف ذاته في مواجهة العبث. ومن خلال هذا التفاعل، يغدو الجمال فعلًا مقاومًا، والحب تمرينًا على الخسارة، والكتابة محاولةً لحفظ ما يتبدّد في تيار الزمن.

إنّ «حب وحمص وثالثهما نيتشه» ليست مجرد مجموعة قصصية، بل مشروع فكري جمالي يسعى إلى مصالحة الفلسفة مع اليومي، وإلى إعادة الاعتبار للجمال بوصفه موقفًا من العالم، لا مجرد زينة له. ففي كل قصة، يضعنا الهنداوي أمام سؤالٍ مؤلم: هل يمكن للجمال أن يُنقذ الزمن من التكرار؟

ولعلّ إجابته، المتوارية بين السطور، هي أن الجمال لا ينقذ الزمن، لكنه يجعل تكراره محتملًا.

 


مشاهدات 74
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/12/25 - 1:19 AM
آخر تحديث 2025/12/25 - 3:13 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 140 الشهر 18420 الكلي 13002325
الوقت الآن
الخميس 2025/12/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير