الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رقصة التانغو بحاجة لشخصين.. الفكاهة اللاذعة في العمل الدبلوماسي


رقصة التانغو بحاجة لشخصين.. الفكاهة اللاذعة في العمل الدبلوماسي

حيدر أدهم الطائي

 

تعد «الفكاهة الساخرة» اسلوبا يجري استخدامه في الاوقات التي تضيق فيها المساحة المتروكة لحرية التعبير فلا يجد المواطن غير «النكتة» ينقل من خلالها حقيقة موقفه من الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فهي متنفس للألم وصرخة في وجه الظالمين.

بدايات حقيقية

ومحاولة للانتصار على الشعور العميق بالضيق ورفض الواقع المرير, انها «هتاف الصامتين, ونزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه» وفي عالم يشهد بدايات حقيقية تتشكل من خلالها مكعبات اللعب بطريقة غير محسوسة الى حد كبير بالمقارنة مع عالم ما قبل اكتشاف القنابل الذرية, وبشكل خاص بعد اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية لا يقتصر استخدام اسلوب «الفكاهة الساخرة» على الفئات المقهورة من الناس وانما نجد استخداما معلنا لها على مستوى العمل الدبلوماسي كأسلوب لكشف «نفاق الطرف الاخر وازدواجية المعايير التي يتبناها احد الاطراف المتنازعة», ولا اعرف في حقيقة الامر ان كان اللجوء الى هذا الاسلوب يستهدف تكريس نوع من المثاليات في عالم السياسة الذي لا يعرف في جوهره شيئا من الاخلاق ام ان الطرق المذكورة في الرد على الخصوم جاءت لتؤكد المنهج الواقعي الذي يتميز به عالم رجال السياسة, فاذا كانت وزيرة الخارجية الامريكية السابقة  الصهيونية المعتقة  «مادلين اولبرايت» المعلن عن وفاتها في اذار 2022 قد ذكرت ان الرئيس الروسي المزعج للولايات المتحدة الامريكية «فلاديمير بوتين» اعترف لنظيره الامريكي «بيل كلينتون» انه كان ينتظر بشكل دائم الاطلاع على الدبابيس التي كانت ترتديها اولبرايت ويحاول افتراض تفسيرات لمعانيها, تقول «اولبرايت» وعندما سألني «بوتين» عن سبب ارتداء دبابيس القرود الثلاثة التي تشير الى «لا تسمع شر, لا تتحدث عن شر, لا تنظر لشر» اجبت بأن ذلك كان بسبب الاسلوب الروسي القاسي في الشيشان, والذي تضمن انتهاكات صارخة وفظيعة لحقوق الانسان. وتابعت «غضب بوتين, ونظر للرئيس كلينتون في حالة من عدم التصديق -على حد تعبيرها- وخشيت ان اكون قد عرضت القمة للخطر, ولكن حين انظر الى الوراء الان, فأنني اشعر بالفخر لأنني ارتديت دبابيس الشر» !!! وما يثيره القول المذكور لوزيرة الخارجية الامريكية السابقة سؤال ملح مضمونه ماذا سيكون تعليقها على ما تقوم به «اسرائيل» من عمليات قتل ممنهجة ضد الفلسطينيين في غزة وغيرها, وهي مستمرة في جرائمها غير المبررة وفقا لأي معيار اخلاقي او واقعي فحتى الواقعية تتضمن في جوهرها هامشا اخلاقيا من المفروض ان يكون واضحا ؟

استخدام الدبلوماسية

لقد كانت اولبرايت فخورة باستخدامها لهذا الاسلوب المبتكر في ميدان العمل الدبلوماسي حتى انها قالت عن ذلك «ان فكرة استخدام الدبابيس كأداة دبلوماسية غير موجودة في أي دليل لوزارة الخارجية, او في اي نص يؤرخ للسياسة الخارجية الامريكية» والغاية النهائية والمعلنة ظاهرا من وراء اللجوء لهذا الاسلوب هو الدفاع عن حقوق الانسان !!! الامر الذي لا يستقيم لا من قريب ولا من بعيد فأولبرايت «1938 – 2022» الحاصلة على شهادة الدكتوراه في القانون عام 1976 كانت تستحق وبامتياز الذهاب الى المحكمة الجنائية الدولية للمثول امامها وقت ان عبرت عن موقف في غاية السوء عندما كانت مندوبة دائمة للولايات المتحدة الامريكية في مجلس الامن حول وفاة اكثر من نصف مليون طفل عراقي جراء المقاطعة الاقتصادية التي فرضت على العراق مطلع تسعينيات القرن الماضي, وهو عدد يفوق عدد ضحايا القنبلة الذرية التي القيت على مدينة هيروشيما اليابانية حيث قالت «اعتقد ان الخيار صعب للغاية, ولكننا نعتقد ان الثمن مستحق» !!! فبأي معيار كان الثمن مستحقا ؟؟؟ لا اعتقد ان الثمن مستحق فعلا حتى بالمعايير الواقعية ذلك وبكل تأكيد اذا كانت هناك شعرة فاصلة او خيط رفيع يفصل بين العمل السياسي والعمل الاجرامي الا ان الواضح للغاية ان الشعرة او الخيط المذكور غير متوافر في عالم مادلين اولبرايت, وان كانت قد اضافت مستطردة  ان فمها سبق عقلها في الاجابة عن سؤال  ذلك الصحفي, وانه كان يجب عليها ان تقول كلا, وليس هذا بالأمر الغريب مطلقا على مثل هؤلاء الناس الذين يؤمنون بالعنصرية حتى وان نفوا ايمانهم بها لانهم يغادرون خانة المعايير الموضوعية ويتدحرجون الى قعر وادي الانحطاط حين يمارسون نوعا من العنف الصارخ عندما يتعلق موضوع ما بالآخرين وحينها يستطيع كل انسان ملاحظة انعدام التمييز لدى هؤلاء بين مربع السياسة من جهة ومربع الجريمة من جهة اخرى, وما يجري في غزة الفلسطينية مثال صارخ على مساحة الجريمة وازدواجية المعايير.

فالثمن المستحق يكون كذلك وهو يسري على اطفال العراقيين والفلسطينيين على وجه الخصوص بينما تتساءل مادلين اولبرايت بنزعة انسانية واضحة لا يلغي المعيار البراغماتي الذي تنبني عليه السياسة الامريكية عندما تذكر بقصة ابراهام لنكولن الرئيس الامريكي الاسبق اثناء فترة الحرب الاهلية الامريكية مع خنزير واقع في ورطة حيث علق في مستنقع لم يكن قادرا على تخليص نفسه منه فهي تقول «الذين يكافحون للتعافي من الجراح التي احدثتها قنابل الارهابيين, والارامل اللواتي قتل ازواجهن بسبب اثنيتهم, والامهات اللواتي يفتقرن الى وسائل تغذية اطفالهن, واذكر على وجه الخصوص انني حملت فتاة في الثالثة من عمرها في سيراليون كانت تدعى مأمونة, وترتدي ثوبا احمر وتلعب فرحة بسيارة صغيرة بيدها الوحيدة فقد قطع احد الجنود ذراعها الاخرى بمنجل كبير كان لدي في ذلك الوقت حفيدة بمثل سنها لم استطع ان افهم كيف يمكن ان يشهر احدهم منجلا كبيرا امام تلك الفتاة. فمن هو الذي تهدده ؟ وعدوة من هي ؟

لا يبدو الخيار صعبا بالنسبة لنا نحن العراقيون حيث ان موقفنا لا يمكن ان يختلف عن موقف الكاتب السوري  «صبحي حديدي» المقيم في باريس عندما كتب حول هذه الحادثة في مقالة له بصحيفة «القدس العربي» بعددها المرقم «10574» الصادر يوم الجمعة الموافق 25/اذار/ 2022  فهو يقول «وكما اعتبرت اولبرايت ان قتل نصف مليون طفل عراقي ثمن مستحق, فان طريقها الى سلة مهملات التأريخ ليس معبدا ومضمونا فحسب, بل هو مآل مستحق, ولعله الاجر الادنى ايضا».

ان مثل هذه المواقف المتضاربة لأولبرايت من موضوع ضرورات احترام حقوق الانسان لا تعبر سوى عن نزعة مزدوجة  تعكس بعدها الكبير عن معيار موضوعي اخلاقي واحد  تستطيع تطبيقه على الجميع, وان كانت تعترف صراحة انها تؤمن بمزيج من النزعة الاخلاقية مع النزعة البراغماتية في عالم السياسة الخارجية, فالحكومة حسب وجهة نظرها مشروع عملي يجب ان يعمل في عالم تسيطر عليه مظاهر الفوضى والمخاطر, فهل يعد هذا السلوك جزءا من المنظومة «الاخلاقية» السائدة في الغرب ؟ ثم الا تستحق هذه الممارسة سخرية الاخرين  الامر الذي عبر عنه السفير الامريكي «جيمس إيكنز» والذي عمل في الرياض وبغداد في تعليق له مستهزئا بالهدف الذي دفع بلاده الى الحرب في العراق وخسائرها التي تقدر بمليارات الدولارات فضلا عن الخسائر في الارواح بين العراقيين والامريكيين على حد سواء مستخدما معيار «يساوي او لا يساوي» الاولبرايتي  يقول «إيكنز»: «ما يبعث على الحزن ان الهدف المعلن اولا لشن الحرب كان يستند الى الكذب والزيف والايهام بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. ثم عندما كشفت تقارير المفتشين عدم وجود تلك الاسلحة المزعومة لجأ بوش الى تغيير الهدف وربط التمرد والمقاومة العراقية بما اسماه الحرب الدولية على الارهاب, وسرعان ما عم التدهور الامني في العراق وشاعت الفوضى وتقلص نفوذ اي سلطة عراقية ليقتصر على مساحة المنطقة الخضراء, في قلب بغداد. لم اسمع خلال السنوات الاربع التي عملت فيها في العراق مثل تلك التقييمات العرقية والطائفية. هذه النتيجة لا تساوي تلك الخسائر».

ان المعايير المزدوجة لا يمكن ان توفر الحد الادنى من الاقناع للطرف الاخر حتى اننا نلاحظ سخرية علنية من جانب شخصيات دبلوماسية معروفة من ادعاء شيء ثم التصرف على خلافه  فهذا الاسلوب اصبح متبعا في اوقات الازمات, اذ قامت السفارة الروسية في باريس بنشر كاريكاتيرا على صفحتها بتويتر يظهر فيه رجلا مريضا مستلقيا على طاولة عمليات جراحية يمثل «القارة الاوربية» وفوقه طبيبان يرتديان زيا كتب على احدهما «امبراطورية الاكاذيب» ويمثل الولايات المتحدة الامريكية في حين كتب على الزي الاخر «الرايخ الاوربي» ويمثل الاتحاد الاوربي في الوقت الذي يقوم فيه الطبيبان بإعطاء المريض حقنا خبيثة كتب عليها «الروسوفيا, النازية الجديدة, العقوبات, ثقافة الالغاء, كوفيد 19» ليخرج الرئيس الفرنسي «ايمانويل ماكرون» غاضبا في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية قال فيه ان نشر هذا الكاريكاتير يعد امرا غير مقبول ابدا لترد عليه الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية «ماريا زاخاروفا» في اذار 2022 بسخرية لاذعة قائلة: «انت تتكلم بجدية...؟! أليس انتم في فرنسا من كان يعلمنا ان اي رسوم كاريكاتيرية هي امر طبيعي ؟ حتى تلك الرسوم الفضيعة التي نشرتها  صحيفة «شارلي إيبدو» ضد الرسول محمد ..؟! لقد قررنا اتباع نصيحتكم واستخدام الكاريكاتير الذي تعتبرونه دليلا على حرية التعبير, والان لا يعجبكم هذا......لا لا لا انت تمزح».

ان مثل هذه التصريحات او التعبير عن الرأي بخصوص احداث معينة وبأية صورة من الصور والتي يكون مصدرها جهات دبلوماسية تباشر العمل السياسي كجزء من اداءها لوظيفتها لن تخضع بكل تأكيد لضرورات توافر شرط او قصد عدم الايذاء للتسليم بمشروعية مثل هذا الاسلوب في التعبير طالما كنا في مشهد شبيه بالموقف الحالي بين الغرب من جهة والاتحاد الروسي من جهة اخرى, ويبقى على الجميع ان يتذكر ان من يمارس اي شكل من اشكال الظلم فعليه ان يستعد في زمن ما وفي مكان ما لتلقي الرد الذي سيشعره بمرارة الهزيمة وعدم صواب السلوك المتبع من جانبه سابقا.

حقا وصدقا اقول: عليكم ان تتعلموا شيئا من مبادئ الاخلاق الحميدة من بعض الزعامات الافريقية التي استطاعت بقدرة عجيبة ان تنسى حجم الاساءات التي تسبب بها الرجل الابيض للقارة الافريقية قتلا ونهبا وتعذيبا والغاء لإنسانية البشر لان الله خلقهم بعيون سوداء وشعر مجعد ولون بشرة داكن, ومع ذلك بادرت هذه الزعامات بنيات طيبة تستحق عنها كل الاحترام طارحة وساطتها للمحافظة على دماء وكرامة اصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعر الاشقر!!! فمتى تنهون هذه الحرب اللعينة التي لن تكسب منها شعوبكم - بل وحتى شعوب العالم الاخرى - سوى مزيدا من الارامل والايتام والازمات الاقتصادية....الخ. لكن الذي ظهر خلال سنوات الحرب المذكورة, وما نشهده في احداث قطاع غزة الفلسطيني يؤكد ما عبر عنه دبلوماسي بريطاني سبق له ان بدء مشواره في العمل الدبلوماسي بالعراق وظل يجوب المنطقة العربية ممثلا لبلاده عندما قال «ان الله جعل لبريطانيا امبراطورية لا تغيب الشمس عن مستعمراتها لأنه لا يثق بها في الظلام» فهل يمكن للعرب والمسلمين بل وعموم الشرقيين ان يثقوا بالغرب عموما بعد ان تلاشت الامبراطوريات بأشكالها التقليدية ام اننا سنبقى امام وحدات اقتصادية وسياسية وثقافية «الدولة» ما زالت محتفظة بروحها الاستعمارية المتعالية, وان الشعارات المطروحة التي تبشر بالديمقراطية واحترام حقوق الانسان لا تعدو في حقيقتها عن كونها شكل من اشكال التزييف والخداع , وان كل ما يحصل في هذا العالم الذي يرنو الى الغرب المتقدم تكنلوجيا لا يتجاوز حقيقة بقاءه حاملا الروح ذاتها مع تغيير في الاشكال والاوضاع والاساليب فقط.


مشاهدات 48
الكاتب حيدر أدهم الطائي
أضيف 2025/12/21 - 5:15 PM
آخر تحديث 2025/12/22 - 1:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 56 الشهر 15972 الكلي 12999877
الوقت الآن
الإثنين 2025/12/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير