فم مفتوح .. فم مغلق
يوم إنشطر قلبي إلى نصفين
زيد الحلي
مع زخات المطر التي شهدتها البلاد في الأيام القليلة المنصرمة، انشطر قلبي إلى نصفين؛ نصف امتلأ فرحاً بالأرض العطشى، وبالظمأ الذي أنهك الأشجار، ونصف آخر اكتسى حزناً على مشاهد الدمار التي شهدتها عدد من المحافظات، وبضمنها العاصمة، نتيجة الفيضانات والسيول التي تسببت بانهيار العديد من البيوت، وسقوط ضحايا، وامتلاء الشوارع والأزقة بمياه الأمطار الممتزجة بالمياه الثقيلة.
حالتان متناقضتان شهدهما العراق في آنٍ واحد: حالة خير بهطول أمطار غزيرة، لم يستفد منها البلد كما ينبغي لغياب السدود ومنشآت الخزن التي تحفظ هذا الخير وتؤمنه للمستقبل، وحالة دمارٍ موجعة حلّت بسبب غياب البنى التحتية الرصينة، فانهارت طرق، وتضررت مستشفيات، وغمرت المياه بيوتا ومدارس، ودخلت بعنف إلى حياة الناس، ناشرة رعبا غير مسبوق.
أعرف، ويعرف الجميع، أن المطر نعمة وخير، فهو يحيي الأرض، وينبت الزرع، ويسقي الإنسان والحيوان، لكنه قد يتحوّل إلى نقمة وعذاب حين يكون غرقاً وفيضاناً، يدمر الممتلكات ويشرد العائلات، وهنا كان يفترض بالدولة أن تنظر إلى الأمر بعين الأبوة والمسؤولية، لا بعين الانتظار والتبرير.
فمع أولى الزخات الرعدية، انتشرت صور غرق الشوارع الرئيسة في المحافظات على مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، وشاهدنا الصبية وهم مضطرون للسير داخل برك المياه التي غطّت أنصاف أجسادهم، بحثاً عن طريق يعبرون به يومهم القاسي.
وأصبح مشهداً مألوفاً أن نرى الأوعية البلاستيكية مصطفّة على أرضيات الغرف، تحاول عبثاً احتواء مياه الأمطار المتسربة إلى البيوت. وفي مشهد آخر، شاهدنا مواطنين يقفون وسط منازلهم الغارقة، يحاولون إخراج المياه إلى الخارج، بينما السيول تواصل عبثها، مدمرة جسوراً ومحال تجارية، ومعطلة حياة الناس.
هل تخيّل أحد منا، ونحن نراقب المطر من خلف النوافذ وقد عطلنا عن مشاغلنا، أن هناك عائلات تنهال أسقف بيوتها بالماء فوق رؤوس أطفالها؟ وأن سماع زخّات المطر عندهم لا يعني الفرح، بل سباقاً مريراً بالأواني والأوعية لصد بلل يتحول إلى عذاب؟
مطر يشتد قسوه على الفقراء والمشردين، ويخف وقعه على المترفين.
ولعل المطر، وهو يطرق نوافذ المدن بهذه القسوة، لا يطالبنا بالفرح وحده، بل يدعونا إلى وقفة ضمير. فنعمة السماء لا ينبغي أن تتحول إلى محنة على الأرض، ولا يجوز أن يبقى الإنسان الحلقة الأضعف في معادلة الإهمال وسوء التخطيط. إن الأوطان لا تقاس بكمية ما يهطل عليها من خيرات، بل بقدرتها على حماية أبنائها حين تفيض تلك الخيرات عن حدها. وإذا كان المطر امتحانا متجددا، فإن الإنسان هو جوهر هذا الامتحان، والدولة هي المسؤولة الأولى عن تحويل الرحمة إلى أمان، والخير إلى استقرار ، أما أن نبقى نعد الخسائر بعد كل عاصفة، ونواسي الضحايا بالكلمات وحدها، فذلك ما يزيد القلوب انشطارا ، ويعمق الجراح.
سيظل المطر نعمةً من الله، لكن عدالته على الأرض تبدأ من عدالة البشر، ومن وطن يرى في كل بيتٍ سقفاً للأمان، لا فخاً للموت، وفي كل طفل مستقبلاً لا ينبغي أن يرتجف خوفاً مع أول زخّة مطر.
رحماك يا رب… واحفظ وطننا..
الصحيح ..
Z_alhilly@yahoo.com